استمع إلى الملخص
- الوضع الكارثي للمستشفيات المتبقية: تعاني المستشفيات السبعة المتبقية من نقص حاد في الأدوية والمستلزمات بسبب إغلاق معبر رفح، مما أدى إلى تأجيل العمليات الجراحية وتفاقم الأوضاع الصحية للمرضى.
- التداعيات الإنسانية والقانونية: يعتبر استهداف المنظومة الصحية جزءاً من جريمة الإبادة الجماعية، ويتطلب تدخلاً دولياً عاجلاً لضمان تدفق المساعدات الطبية إلى غزة.
كانت المنظومة الصحية هدفاً أساسياً لآلة الحرب الإسرائيلية خلال العدوان على قطاع غزة، الذي يصادف اليوم مرور عام على اندلاعه. خلال هذا العام، سعى الاحتلال إلى إسقاط المنظومة الصحية من خلال إحراق وتدمير معظم مستشفيات غزة وإخراجها عن الخدمة وقتل واعتقال كوادر طبية ومرضى وجرحى دفنوا في مقابر جماعية داخل المستشفيات، خصوصاً مستشفى كمال عدوان شمالي القطاع، ومجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة ومجمع ناصر الطبي في خانيونس.
وجريمة تدمير وإحراق مجمع الشفاء الطبي إحدى أبشع المجازر التي طاولت المنظومة الصحية، بعد اجتياحه الثاني في 18 مارس/آذار 2024، حيث ارتكب الجيش الإسرائيلي على مدار أسبوعين جرائم إعدام وقتل طاولت نحو 400 فلسطيني، لتنتهي قصة أحد أكبر المجمعات الطبية الذي تأسس في أربعينيات القرن الماضي. ولا تقل جريمة استهداف المستشفى المعمداني في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بشاعة، حيث استشهد نحو 500 شخص معظمهم من الأطفال والنساء.
وفي الحصيلة الإجمالية، دمر الاحتلال 34 مستشفى وأخرجها عن الخدمة، واستهدف 162 مؤسسة صحية، وأخرج 80 مركزاً صحياً عن الخدمة، و131 سيارة إسعاف، فيما استشهد 986 من الطواقم الطبية فضلاً عن اعتقال 310 من العاملين في القطاع الصحي، وفق إحصائية صادرة عن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
من جهة أخرى، تعيش مستشفيات غزة السبعة المتبقية وضعاً كارثياً، مع مرور ستة أشهر على إغلاق معبر رفح، وعدم إدخال الأدوية والمستلزمات والمعونات الطبية، الأمر الذي يعيق عمل الطواقم الطبية. في هذا الإطار، أرجأت العمليات المؤجلة سابقاً بسبب عدم وجود شاش وفوط معقمة للبطن، وعدم وجود ملابس معقمة للأطباء والممرضين، ونقص شديد في الأدوية ومنها أدوية التخدير، وهي من الأساسيات التي يجب أن تتوفر بكثرة في أي مستشفى ونقطة طبية، إلا أنها لم تعد متوفرة، الأمر الذي يشير إلى حجم ما يعانيه القطاع الصحي.
هذا الواقع يضع المنظومة الصحية العاجزة عن تقديم الخدمة أمام تحديات كبيرة. وفق إحصائيات رسمية حول التداعيات الكارثية لإسقاط المنظومة الصحية، فهناك مليون و737 مصاباً بأمراض معدية، و71 ألف حالة إصابة بالكبد الوبائي، فضلاً عن انعدام الرعاية لنحو 60 ألف حامل، و350 ألف مريض مزمن يعيشون في خطر بسبب منع إدخال الأدوية، و3500 طفل معرضون للموت بسبب سوء التغذية، و12 ألف جريح بحاجة للسفر للعلاج. واقع أنهك الطواقم الطبية وأشغل غرف العمليات في المستشفيات، عدا عن عشرة آلاف مريض سرطان يواجهون خطر الموت بعد سيطرة الاحتلال على مستشفى الصداقة التركي في ديسمبر/كانون الأول 2023.
ويحتاج 96 ألف مصاب وجريح إلى 500 ألف عملية جراحية مختلفة، لكن أرجأت نسبة كبيرة منها. ويظهر الواقع الكارثي زيادة نسبة الوفيات الطبيعية خلال الحرب بنحو 6.5 أضعاف بالمقارنة مع عدد الوفيات قبل الحرب.
ويعد مستشفى شهداء الأقصى الوحيد الذي لم يجتحه جيش الاحتلال من أصل 35 مستشفى حكومياً، أحد الأمثلة على واقع كارثي يعيشه القطاع الصحي في غزة، هو الذي يضمّ 188 سريراً طبياً ويخدم مليون نازح في محافظة الوسطى حالياً. وفي الوقت الحالي، يهتم بـ600 جريح ومريض أي أكثر من طاقته الاستيعابية بثلاث مرات.
وكان مجمع الشفاء الطبي يضم 750 سريراً و25 غرفة عمليات و30 غرفة للعناية المركزة. وأدى إحراقه من قبل جيش الاحتلال إلى زيادة العجز لدى المنظومة الصحية. ووفقاً للمؤشرات الصحية ما تبقى من القطاع الصحي يخدم في الحد الأقصى ما لا يزيد على 15% فقط من الإصابة والمصابين في العدوان، وهو غير قادر على خدمة أمراض مزمنة، ذلك مع استثناء الأمراض الوبائية التي سببها الاكتظاظ في مراكز الإيواء، ونظام الصرف الصحي.
وقبل الحرب، كان يستفيد سكان محافظات القطاع من الخدمات الصحية في 35 مستشفى، بمعدل 1.59 مستشفى لكل 100 ألف نسمة، و13 مستشفى منها حكومي، و17 مستشفى غير حكومي، ومستشفيان يتبعان لوزارة الداخلية والأمن الوطني، وثلاثة مستشفيات خاصة.
واقع كارثي في مستشفيات غزة
يقول مدير المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة مروان الهمص، إنّ "الاحتلال تعمد تدمير المنظومة الصحية من خلال تدمير غالبية المستشفيات في قطاع غزة، وكان عددها نحو 35 مستشفى. ولم يتبق منها إلا سبعة مستشفيات بالكاد تعمل، منها المستشفى الأهلي المعمداني بمدينة غزة ومستشفى أصدقاء المريض وكمال عدوان والمستشفى الإندونيسي في شمال القطاع، والذي اقتحمه جيش الاحتلال مرتين.
يضيف الهمص لـ"العربي الجديد": "في جنوب القطاع المكتظ بالنازحين، تعمل أربعة مستشفيات هي المستشفى الأوروبي ومستشفى ناصر الطبي ومستشفى الأمل بمحافظة خانيونس، ومستشفى شهداء الأقصى في محافظة الوسطى (خرج عن الخدمة بسبب زيادة عدد المرضى). عاد المستشفى الأوروبي الذي كان قد أخلي، إلى العمل مؤخراً، في وقت يعمل فيه مجمع ناصر الطبي بكل طاقته، ويعاني نقصاً في المستلزمات والأدوية ولا يكفي لسد حاجة المحافظة مع مستشفى الأمل.
ورغم انتشار مستشفيات ميدانية ونقاط طبية عدة في المحافظة، بعضها تابع لمنظمة أطباء بلا حدود ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" وغيرها، يؤكد الهمص أن تلك العيادات مجتمعة لا تقوم مقام مستشفى حكومي واحد، مبيناً أن المستشفى يكون متكاملاً بوجود أقسام طوارئ ومبيت وعناية مركزة ومختبر وأقسام أشعة وكل ما يحتاجه. أما المستشفيات الميدانية، فإنها تفتقر لبعض تلك الخدمات.
ويوضح مدير المستشفيات الميدانية في وزارة الصحة أن تدمير مستشفيات غزة أدى إلى تراجع الخدمة المقدمة إلى أصحاب الأمراض المزمنة؛ فبسبب احتلال الجيش الإسرائيلي مستشفى الصداقة التركي جنوب مدينة غزة، وهو الوحيد المتخصص بالأورام السرطانية، خرج عن الخدمة كلياً، وازدحمت أقسام الكلى، فالمرضى لا يجدون مكاناً لهم، ونظراً إلى الازدحام، عمدت وزارة الصحة إلى إنشاء قسم ميداني في منطقة الزوايدة وسط القطاع يضم 26 سريراً طبياً، إلا أن بعد المكان يعيق وصول المرضى إليه.
وأدى هذا التدمير الممنهج، بحسب الهمص، إلى انتشار الأوبئة مع عدم استطاعة الطواقم الطبية التعامل معها أو حصرها، كانتشار مرض الكبد الوبائي وتفشي الأمراض الجلدية بين الأطفال، وانتشار مرض شلل الأطفال بعد تدمير البنية التحتية وشبكة المياه والصرف الصحي، قبل إطلاق حملة تطعيم واسعة.
وتعليقاً على تدمير مجمع الشفاء ومجزرة المعمداني، يقول: "نشهد مجازر يومية ونتعامل مع إصابات جماعية، لكن بعدد أقل مما شهده مجمع الشفاء والمعمداني"، واصفاً الخدمة التي تقدمها المستشفيات بأنها "عرجاء" بسبب نقص المستلزمات بأكثر من 85%، ونفاد مخزون الأدوية بأكثر من 65%.
بالإضافة إلى النقص في المستلزمات، تعاني المستشفيات، بحسب الهمص، إرهاباً متواصلاً من جيش الاحتلال، إذ يقصف محيطها لإخافة العاملين والمرضى وتكرار أوامر الإخلاء، كما حدث مع المستشفى الأوروبي الذي أخلي، ما أعاق تقديم الخدمة. ويؤكد أن نقص المستلزمات والأدوية معضلة منذ بداية الحرب، وقد أعاق الاحتلال إدخالها أيضاً قبل ست سنوات. ويقدر أن ما يصل الوزارة حالياً من مستلزمات وأدوية لا يكفي 3% مما يحتاجه القطاع الصحي.
3 مسارات لتدمير مستشفيات غزة
ويقول مدير المكتب الإعلامي الحكومي إسماعيل الثوابتة، إنّ استهداف القطاع الصحي جزء من تدمير 15 قطاعاً حيوياً، وبلغت حصيلة خسائرها المباشرة 35 مليار دولار (كان نصيب القطاع الصحي 575 مليون دولار منها). ويقول لـ"العربي الجديد" إن "لدى الاحتلال خطة معدة لإسقاط المنظومة الصحية، وقد اعتمدت على ثلاثة مسارات؛ الأول تدمير المباني، إذ تم تدمير نحو 34 مستشفى من أصل 35 مستشفى، ولم يتبق إلا مستشفى شهداء الأقصى الذي لم يدخله جيش الاحتلال، ويقدم الخدمة لأكثر من مليون على الرغم من احتوائه على 188 سريراً طبياً فقط، وفي داخله أكثر من 600 من المرضى والجرحى".
ويوضح أن الاحتلال أسقط مستشفيات غزة عبر إحراقها، وفي مقدمة ذلك مجمع الشفاء الطبي، الذي احتله جيش الاحتلال وحوله إلى ثكنة عسكرية ثم إلى مقبرة جماعية، بعدما أعدم عشرات الكوادر والمواطنين والجرحى ودفنهم في ثلاث مقابر في المجمع، بالإضافة إلى إحراق مستشفيات القدس والنصر والرنتيسي والعيون في مدينة غزة، ومستشفى كمال عدوان والعودة في شمال القطاع، وأبو يوسف النجار بمحافظة رفح".
والمسار الثاني، بحسب الثوابتة، تمثل باستهداف الكوادر الطبية، إذ أعدم الاحتلال 986 طبيباً وممرضاً، واعتقل 310 من العاملين استشهد منهم تحت التعذيب الطبيب عدنان البرش وإياد الرنتيسي وزياد الدلو. ويشير إلى أن المسار الثالث تمثل بإغلاق معبر رفح ومنع 25 ألفاً من الجرحى والمرضى من السفر لتلقي العلاج، ومنع إدخال الأدوية، ما حرم نصف مليون من المرضى والجرحى من العلاج، وبالتالي أسقط المنظومة الصحية.
دموية وفاشية الاحتلال
شكّل استهداف المنظومة الصحية، بحسب رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد"، صلاح عبد العاطي، جزءاً من جريمة الإبادة الجماعية التي بدأت مع العدوان الإسرائيلي منذ عام، وتلا ذلك الاستهداف المتعمد للطواقم الطبية وتدمير المستشفيات والجرحى، ومجمع الشفاء الطبي واكتشاف مقابر جماعية في هذه المستشفيات، ما يكشف عن مدى دموية وفاشية الاحتلال وتحلله من كل الالتزامات التي تكفل الحماية الخاصة للطواقم الطبية، ما يؤدي إلى وفاة أكبر عدد من الفلسطينيين.
ويرى عبد العاطي في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن ارتكاب الاحتلال المجازر في الوقت نفسه كان هدفه الضغط على الطواقم الطبية التي عجزت عن تقديم الخدمات، في ظل الظروف الكارثية التي تمر بها مستشفيات غزة مع منع إدخال المستلزمات والوقود اللازم لتشغليها، وتدمير الأجهزة الصحية، وانهيار القطاع الصحي. وما سبق يخالف القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف التي وفرت حماية خاصة للمستشفيات والعيادات والعاملين فيها والمسعفين.
مارس الاحتلال جرائمه في ظل عجز دولي عن وقف تلك الجرائم. ويعزو عبد العاطي الأمر إلى تخوف تلك الدول من أميركا التي كانت شريكاً في جريمة الإبادة ولا تزال عبر الدعم العسكري والمالي، لافتاً إلى أن الاحتلال يريد انهيار القطاع الصحي ونشر الأمراض ومنع تقديم الخدمات الصحية كأحد فصول الإبادة الجماعية، وجعل القطاع غير قابل للحياة، ما يستدعي تدخلاً دولياً لضمان تدفق المساعدات الطبية إلى غزة.