تعكف حكومات الاحتلال الإسرائيلي المتعاقبة على تبنّي سياسات تهدف إلى زيادة معدل الولادات اليهودية عبر توفير الإمكانات المادية والعلمية. إذ يسود افتراض مفاده أن تعاظم الثقل الديموغرافي يسهم في تمكين الحكومات من تحسين قدرتها على السيطرة على الأرض عبر القوى البشرية اللازمة للمستوطنات، كما تُعدّ زيادة النسل مركباً أساسياً في الأمن القومي كونها توفّر احتياطياً للجيش؛ فضلاً عن دورها في عجلة الاقتصاد.
وتقدم حكومات الاحتلال مغريات كبيرة للعوائل لتشجيعها على زيادة معدلات المواليد، ويظهر الموقع الإلكتروني لمؤسسة "التأمين الوطني" حجم الإنفاق الهادف إلى تشجيع النساء على الحمل والولادة، إذ تقدّم المؤسسة مخصصات مالية لكل مولود، وتزداد القيمة بعد المولود الأول الذي يحصل على 164 شيكل (48 دولاراً)، ليحصل المواليد الثاني والثالث والرابع على 207 شيكل (61 دولاراً)، كما تقدّم المؤسسة مخصصات مالية للمرأة لتغطية متطلبات الحفاظ على الحمل، ودفع رسوم الولادة، ودعم ما بعد الولادة، ودعم خاص لمن يجرين عمليات ولادة قيصرية، وهناك إجازة طويلة للأم بعد الولادة.
وأوردت القناة "12" في تقرير أن السلطات عملت منذ عقود على تشجيع زيادة الولادات لمواجهة "الخلل الديموغرافي"، إذ أعلنت في خمسينيات القرن الماضي عن "جائزة الدولة للولادة"، ومنحت العوائل التي تنجب أكثر من عشرة أفراد منحة مالية، فضلاً عن التكريم المعنوي، ودشّنت الحكومة في ستينيات القرن الماضي مؤسستين لوضع استراتيجيات تهدف إلى زيادة معدلات الولادة، وهما "لجنة الولادة" و"المركز الديموغرافي"، وقدّمت سلة من التسهيلات لكل عائلة تنجب أربعة أفراد أو أكثر، من بينها منح تخفيض على المشتريات من شبكات التغذية والملابس، وربط زيادة مخصصات الضمان الاجتماعي بزيادة عدد الأولاد.
وكتبت الباحثة الإسرائيلية في مجال شؤون المرأة طاليا غولان، في مقال نشره موقع القناة "12"، أن "إسرائيل تخصص موارد ضخمة لإجراء العمليات التي تساعد على معالجة العقم، ومنحت النساء اللواتي يعانين من انخفاض احتياطي المبايض القدرة على الحصول على عقاقير تساعد في الحفاظ على أكبر مستوى من الخصوبة لديهن، كما تمول عمليات علاج نقص الخصوبة بواسطة التقنيات المتقدمة، وتحتل إسرائيل المرتبة الأولى عالمياً في معدل دورات التلقيح الاصطناعي للنساء في سن الإنجاب، وهي تقدّم منحاً مالية للنساء اللاتي يقلّصن الفترة بين مرات الإنجاب، بحيث لا تتجاوز 30 شهراً".
وتشير غولان إلى أن "هذه السياسات تضرّ بكل من المرأة والأطفال، لأنها تشجع النساء في عمر 40 إلى 45 سنة على معالجة العقم، بينما فرص أن تلد النساء في مثل هذا العمر أطفال أصحاء عادة متدنية، في حين تخصص الحكومة مليارات لمساعدة النساء المتقدمات في العمر في محاولة إنجاب طفل على حساب أوجه الإنفاق الطبي الأخرى التي يمكن أن تسهم في إنقاذ كثيرين. تلك السياسات التي تحمل النساء والأطباء مسؤولية زيادة عدد السكان لا يمكن أن تجد لها مثيلاً في أية دولة في العالم".
وتظل أكثر الفئات الاجتماعية حماساً لزيادة معدلات الولادة من التيارات الدينية المتشددة، وتحديداً التيار الحريدي، إذ يبلغ متوسط عدد ولادات المرأة الحريدية ثماني ولادات.
وتظهر النبذة التعريفية التي نشرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" حول وزراء الحكومة الإسرائيلية الجديدة أن وزراء الحركات الدينية المشاركة في الائتلاف الحاكم هم مثال واضح على مدى حماس هذه التيارات لزيادة النسل، فوزيرة الشؤون الاستراتيجية، أوريت ستروك، أنجبت 11 مرة، ووزير الإسكان الحاخام إسحاك غولدكناف لديه 10 أولاد، ووزير الداخلية والصحة المقال الحاخام آريي درعي لديه 9 أولاد، ووزير المالية بتسلال سموتريتش، ووزير التراث عميحاي إلياهو، والوزير في وزارة التعليم يوآف بن تسور، ووزير الأديان ميخال ميلكئيلي، ووزير الهجرة أوري سوفير، لدى كل منهم 7 أولاد.
وفي مقابل حماس التيار الديني الحريدي لاستراتيجية زيادة معدلات الولادة، فإن إسهامه في سوق العمل متدنٍ جداً، فضلاً عن أن معظمهم يتم إعفاؤه من أداء الخدمة العسكرية، ما يعني تحمل الحكومة تكلفة اقتصادية باهظة.
ويرى الباحث دورون برويطمان أن "زيادة معدلات الولادة تقلّص من استفادة إسرائيل من معدلات النمو الاقتصادي بسبب تقلص إنتاجية الفرد الإجمالية"، ويؤكد في تقرير نشرته صحيفة "كلكيسلت" الاقتصادية أن "الاستغراق في توجيه الموارد لزيادة معدلات الولادة يمسّ بالقدرة مستقبلاً على مساعدة الطبقات الفقيرة. تسجّل إسرائيل سنوياً زيادة في تعداد السكان بنسبة 1,8 في المائة، في حين تبلغ هذه النسبة في دول مجموعة منظمة التعاون والتنمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا 0,4 في المائة فقط".
رغم كل تلك التبعات، فإن فرص تراجع إسرائيل عن سياساتها الهادفة إلى زيادة معدلات الولادة متدنية للغاية بسبب نفوذ التيارات الدينية الأكثر استفادة من هذه السياسات، وخصوصاً بعد الانتخابات الأخيرة، فممثلو الأحزاب الدينية يحوزون على الوزارات ذات العلاقة المباشرة بإدارة هذه السياسات، مثل وزارات المالية والضمان الاجتماعي والإسكان والصحة.
وترى تلك الأحزاب في زيادة تمثيلها سكانياً وسيلة لضمان زيادة تأثيرها السياسي، وتعظيم قدرتها على التأثير في دوائر صنع القرار، وأنه كلما تمكّنت من تحقيق مكاسب انتخابية، تحسّنت قدرتها على إلزام الحكومات بمواصلة تلك السياسات.