قبل ثلاثة أعوام، وُضعت لافتة داخل مقبرة البرية "الشيخ رضوان" لمنع الناس من دفن الموتى، تنفيذاً لقرار أصدرته وزارة الأوقاف الدينية الفلسطينية في قطاع غزة، لكن السكان واصلوا دفن موتاهم فيها حتى تلاصقت القبور بعضها ببعض، وضاقت مساحة زوار المقابر، وانتشرت الحشائش فيها.
تعتبر مقبرة البرية إحدى الأقدم في القطاع التي دفن فيها مئات من الشهداء وقيادات المقاومة الفلسطينية إلى جانب شخصيات، ولم تفلح محاولات منع الناس من الدفن فيها، إذ نفذ كُثر عمليات دفن ملاصقة لقبور ذويهم تنفيذاً لوصيات المتوفين، ما زاد الاكتظاظ داخل المقبرة، في وقت يواجه قطاع غزة مشاكل في توفير أراضٍ لمقابر جديدة، في أزمة تتفاقم منذ سنوات.
يشعر كُثر بالانزعاج خلال زيارة قبور ذويهم، إذ يحتاج الدخول إلى جهد لتجنب الدوس على أي من القبور. وفي بعض المرات يضطر بعضهم إلى القفز بينها، كما يوضح محسن العجل الذي يزور قبر والدته باستمرار في مقبرة البرية، بعدما نفذ وصية والدته بدفنها إلى جانب قبر جدته في المقبرة ذاتها قبل عامين.
وسبق أن أغلقت وزارة الأوقاف في قطاع غزة هذا العام 24 مقبرة، بعدما بلغت أقصى طاقتها الاستيعابية، في نهاية يوليو/ تموز الماضي. وصنفت الوزارة هذه المقابر بأنها "قديمة"، وأبلغت جميع حراس المقابر بمنع الدفن فيها، لكن عدداً منهم قالوا لـ"العربي الجديد" أنهم يحاولون في بعض الأحيان منع أسر متوفين من الدفن، لكنهم لا يستطيعون السيطرة بالكامل على ما يحصل.
يقول العجل لـ"العربي الجديد": "أنزعج كثيراً عندما آتي إلى المقبرة، إذ أمشي أحياناً بين حشائش وأشواك لبلوغ قبر أمي، وأشعر من كثرة القبور في بعض الأحيان بأنني تائه. عندما دفنا والدتي، حاول أشخاص منعنا لأنها مليئة، لكن وصية والدتي أهم من أي شيء، وقد زاد الاكتظاظ في المقبرة الآن مثل مقابر أخرى في قطاع غزة، ولا يوجد مكان جديد لها، والناس تخاف السكن إلى جانبها".
وتعتبر وزارة الأوقاف الدينية في غزة أن المقابر لم تسلم، مثل المزارع والأراضي الفارغة، من تداعيات النمو الديمغرافي السريع وشحّ الأراضي في إحدى أكثر البؤر اكتظاظاً بالسكان في العالم، علماً أنه يعيش داخلها أيضاً أشخاص لم يجدوا مساكن لهم. ويشير مدير عام الأملاك في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في غزة مازن النجار أن الوزارة تشرف على 64 مقبرة في قطاع غزة. ويقول لـ"العربي الجديد": "نواجه أزمة في العثور على أراضٍ لبناء مقابر بسبب طبيعة التمدد العمراني والنمو السكاني في قطاع غزة، وهي من الحاجات التي تزداد كل عام، ونحن نعلم أن إحدى المشاكل الأساسية في قطاع غزة تتمثل في الحاجة إلى مبانٍ سكنية، لكن تظهر مشاكل ترتبط بارتفاع عدد الوفيات بسبب الأمراض والحروب، ومثل وزارات أخرى في غزة، نقدم طلبات إلى اللجنة الإدارية لتخصيص أراضٍ للقبور، لكن الأمر صعب".
ويتحدث النجار عن أن وزارة الأوقاف واجهت أزمات، خصوصاً في العدوان الأول على قطاع غزة بين عامي 2008 و2009، الذي خلّف أعداداً كبيرة من الشهداء في وقت واحد، ونفذت أسر عمليات دفن جماعي، وبعده في عدوان عام 2014، الذي استمر 51 يوماً، وخلّف أزمة قبور داخل مناطق ارتكب فيها الاحتلال الإسرائيلي مجازر.
ويوضح أن وزارة الأوقاف وفرت بصعوبة كبيرة مقابر جديدة في أربع محافظات بالقطاع هذا العام، لكن هذا الأمر لا يحل الأزمة بالكامل، إذ تبقى المشكلة في العثور على بديل لأكبر مقبرة تقع في شمال مدينة غزة والتي تضم نحو 750 ألف قبر.
وفيما يلمح إلى احتمال عدم إيجاد أراضٍ خالية لدفن الموتى خلال ثلاث سنوات قادمة، يعيش عدد من الأسر منذ أكثر من عشرين عاماً في عدد من مقابر قطاع غزة المنتشرة، في ظل عدم إيجادهم مساكن. وهؤلاء بالتأكيد من الأسر الأكثر فقراً، والتي عجزت سلطة الأراضي الفلسطينية وحتى وزارة الأوقاف عن محاولة نقلهم من المقابر، التي لا يجدون بديلًا لها من أجل السكن.
إلى ذلك، اضطرت عائلة سمير السعدي إلى دفن جده قبل أسبوعين في المقبرة الشرقية المحاذية للشريط الفاصل الحدودي، لأنها لم تجد مقبرة فارغة قرب حي الشيخ رضوان والنصر، بينما جرى دفن جدته العام الماضي داخل قبر والدها بناءً على وصيتها.
ويقول السعدي لـ"العربي الجديد": "نميل عادة إلى دفن ذوينا في مقابر قريبة من مناطق سكننا، لأننا نزور القبور في أي وقت نشعر فيه بضيق، أو لقراءة الفاتحة على روح الموتى كل خميس أو جمعة، لكن المقابر مرعبة الآن بسبب الاكتظاظ لدرجة أنه لا يمكن رؤية التراب في بعضها من شدة التلاصق".