حول سفرة "السينات السبع"، يستقبل الإيرانيون اليوم الثلاثاء، بداية عام 1402 وفق التقويم الشمسي، ويحتفلون بـ"عيد النوروز"، مرددين دعاء: يا مقلب القلوب والأبصار. يا مدّبر الليل والنهار. حوّل حالنا إلى أحسن حال.
تعني لفظة "النوروز" اليوم الجديد، وهو اليوم الذي يولد مع الانقلاب الربيعي، والذي يوافق رأس السنة الإيرانية الجديدة. و"النوروز" هو العيد الأهم لدى الإيرانيين، وقد توارثوا احتفالاته وطقوسه جيلاً بعد جيل منذ آلاف السنين، ورغم مرور الزمن، لم يفقد العيد بريقه، بل يزداد زخماً عاماً بعد عام مع محاولة عصرنة هذا التراث العريق بالأدوات الاحتفالية الحديثة جنباً إلى جنب مع الأساليب القديمة.
وودّع الإيرانيون مع حلول "عيد النوروز"، عاماً حافلاً بالأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أبرزها الاحتجاجات الواسعة التي جرت عقب وفاة الشابة مهسا أميني، خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي، بعد أيام من احتجازها بتهمة عدم الالتزام بقواعد الحجاب، إذ كان هذا الحدث طاغياً على تفاصيل حياة الإيرانيين لنحو ثلاثة أشهر، وخلف ضحايا ومصابين ومعتقلين، فضلاً عن تداعياته المستمرة، وخصوصاً على البعد الاجتماعي.
يحل العيد هذا العام قبل يومين من حلول شهر رمضان، ما يعني إمكانية تأثير أجواء الصيام على بعض طقوس النوروز، وخاصة الزيارات واللقاءات العائلية في فترة النهار، وسيضطر كثيرون إلى التوفيق بين المناسبة الشعبية التاريخية والمناسبة الدينية المهمة، إذ لا مناص من الاحتفال بهما معاً.
تنطلق الاستعدادات السنوية مبكراً، فمع بدء شهر "إسفند"، وهو آخر أشهر السنة الشمسية الإيرانية، كما أنه آخر أشهر فصل الشتاء، يبدأ العدّ العكسي لحلول "النوروز"، ويشرع الإيرانيون من جميع القوميات والطوائف، الفرس والترك والأكراد والعرب والبلوش واللور، بتحضيرات العيد، ويمارس كثيرون منهم طقوساً تراثية خلال هذا الشهر، من أبرزها "خانه تكاني"، والتي تعني تنظيف البيوت وتجديد الأثاث.
تستقبل الشوارع الإيرانية النوروز بالزهور والعروض الفنية التي تقدمها الشخصية الخيالية المرتبطة بالعيد "حاجي فيروز". يصبغ الحاج فيروز وجهه باللون الأسود، ويطوف شوارع المدن قبل حلول العيد بأسابيع، منشداً قصائد شعبية، مع تقديم عروض راقصة، ولقاء ذلك، يقدم له المارة النقود كعيدية.
وتكتظ الشوارع والبازارات الإيرانية في شهر "إسفند" بالمارة، وينشغل الجميع بشراء مستلزمات العيد من ملابس وأثاث، وأحياناً بيوت جديدة، لكن هذا التقليد التاريخي تأثر خلال السنوات الأخيرة بالأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد.
تزوج الثلاثيني الإيراني سعيد قبل سنة واحدة، وهو يعمل كسائق سيارة أجرة في العاصمة طهران، ويقول لـ"العربي الجديد"، إنه عمل خلال هذا الشهر يومياً من الساعة السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً حتى يتمكن من تحصيل دخل يمكّنه من شراء هدايا لزوجته في أول "عيد نوروز" في حياتهما الزوجية، وتقديم "العيدية" لأطفال أسرتها عندما يزورهم للمعايدة. يضيف: "الأسعار مرتفعة، لكن هبوط قيمة الدولار بعض الشيء خلال الأيام الماضية زاد أملي في أن أتمكن من شراء مسكوك ذهبي لزوجتي كهدية العيد، فسعره 400 دولار تقريباً".
فقد زاد عدد الأسر الإيرانية غير القادرة على التحضير للعيد، ومنع الغلاء العديد من العائلات من تجديد الأثاث، أو شراء حاجيات العيد كما اعتادت في السنوات السابقة، وكل هذا جعل حركة الشوارع أقل زخماً مقارنة مع فترة ما قبل فرض العقوبات الأميركية في عام 2018.
وكلما يقترب "النوروز" يزداد السرور في إيران، وخاصة بين الأطفال الذين يعدّون الأيام لحلول العيد. تعيش الطفلة الكردية يسنا (12 سنة) مع عائلتها في مدينة "سنندج" مركز محافظة كردستان (غرب)، وتقول لـ"العربي الجديد": "أترقب حلول العيد بفارغ الصبر كي ألبس فستاني الجديد، وأقفز مع صديقتي فوق النار، وأتقاضى العيديات من جدي وأعمامي وأخوالي. أسرتي ستقضي بعض أيام عطلة النوروز في مدينة (مريوان) على الحدود مع العراق، والتي تحتضن بحيرة (زريبار)"، وهي واحدة من أكبر بحيرات المياه العذبة في العالم.
يدشّن الإيرانيون احتفالات "النوروز" بإحياء طقس "الأربعاء الأحمر" أو "أربعاء النار"، في مساء الثلاثاء الأخير من السنة الإيرانية، وتسميته الفارسية "جهارشنبه سوري". عندما تخبو الشمس عشيّة آخر يوم ثلاثاء من العام الفارسي تبدأ الاحتفالات تعبيراً عن الفرح باقتراب عيد النوروز، وتشمل إطلاق المفرقعات والألعاب النارية بكثافة، وإشعال النار في الساحات والشوارع، وعلى أسطح المنازل وأمامها، ثم القفز عليها.
ولم تمر احتفالات "الأربعاء الأحمر" هذا العام من دون سقوط ضحايا، ما يعكر صفو العيد للعديد من الأسر، إذ خلفت 19 قتيلاً و1290 جريحاً، بعضهم فقدوا عيونهم أو بترت بعض أعضائهم، ويتكرر هذا سنوياً رغم كل تحذيرات السلطات الأمنية. وفي مساء آخر خميس من السنة، يقوم الإيرانيون بزيارة قبور موتاهم، وخاصة الذين فقدوهم حديثاً، ليتذكروهم مع حلول "النوروز".
ويترقب الجميع ساعة "الانقلاب الربيعي"، ليجتمع كل أفراد العائلة حول "سفرة السينات السبع"، والتي يبدأ تجهيزها قبل أيام، وتضم سبع حاجيات تبدأ بحرف السين بالفارسية. وهي "سيب" أي تفاح، ويرمز إلى الجمال والسلامة، و"سير" أي الثوم، والذي يرمز إلى الصحة، ونبتة "سنبل" التي ترمز إلى الزينة، بالإضافة إلى "سمّاق"، وحلويات "سمنو" التقليدية الشهيرة، وفاكهة "سنجد". كما يضعون "سكة"، وهي قطعة نقود معدنية، كمؤشر على طلب الرزق أو المال أو البركة. ويجب أن تضم السفرة حوضاً فيه سمكة، وترمز إلى الحياة.
وبعد دخول الإسلام إلى إيران، بات وضع نسخة من المصحف جزءا أساسيا من مكونات السفرة. وعادة ما يستغل الإيرانيون أيام العطلة التي تستمر لأسبوعين، للقيام برحلات داخلية وخارجية، وزيارات عائلية، ويختتمون الاحتفالات بآخر طقوس العيد، وهو إحياء يوم "سيزده بدر"، والذي يعني آخر أيام عطلة النوروز، ويخرج فيه ملايين الإيرانيين منذ الصباح الباكر في أكبر تظاهرة شعبية فولكلورية متجهين إلى الصحراء والأودية والحدائق العامة، مستحضرين عادات وطقوساً تاريخية في هذا اليوم الذي يوافق الثالث عشر من شهر "فروردين"، وهو أول شهور السنة الإيرانية.