استمع إلى الملخص
- **تحديات مهنة الإسكافي**: رغم تطور المعدات وأساليب العمل، تظل مهارة العامل العامل الأبرز في جودة العمل. تواجه المهنة تحديات مثل ارتفاع أسعار المواد الخام وصيانة المعدات، مما يؤثر على تكلفة الخدمة.
- **الجانب الاجتماعي والاقتصادي**: الإقبال على تصليح الأحذية يعكس الواقع الاقتصادي الصعب. الباحثة نجلاء عبد المنعم تشير إلى أن الوضع الاقتصادي المتردي ساهم في ازدهار مهنة الإسكافي كخيار اقتصادي للأسر لتقليل النفقات.
أحكمت الأزمات قبضتها على المصريين باختلاف وظائفهم ومستوياتهم، ما دفع الكثير من الأسر إلى تغيير نمط حياتها بسبب الارتفاع غير المسبوق في الأسعار بفعل التضخم الذي طاول كل شيء، والذي قلص القدرة الشرائية للغالبية العظمى، فيما عادت إلى الواجهة بعض المهن مثل "الإسكافي"، ليتزايد الإقبال على محال تلك المهنة التراثية بفعل الظروف المعيشية الصعبة.
وشهدت مهنة الإسكافي، الذي يُطلق عليها أحياناً "الجزمجي"، تطوراً على مستوى المعدات وأساليب العمل بمرور السنوات، وإن ظلت مهارة العامل هي الفارق الأبرز الذي يبرز جودة عمله مقارنة بغيره من أهل مهنته.
ويتزايد احتياج الأهالي إلى الإسكافي كلما شهدت أسعار بيع الأحذية ارتفاعاً جديداً، كما يقبل كثيرون عليه مع اقتراب موسم العودة إلى المدارس، إذ تنطلق في البيوت المصرية عملية بحث محمومة عن الأحذية والحقائب المدرسية المستعملة، مع العزم على إعادة الحياة إلى تلك الأحذية المهترئة التي تحمل في طياتها قصصاً من التحصيل الدراسي واللعب في الشوارع. ليصبح "الإسكافي" أحد أبرز أبطال هذه الفترة.
تكتظ محال التصليح بالزبائن، وتتعالى أصوات الأمهات والآباء وهم يتحدثون عن العيوب التي يحتاجون إلى إصلاحها، بينما يتنقل الأطفال في المحل متطلعين إلى أحذيتهم القديمة، ويترقبون بقلق الحال الذي ستصبح عليه بعد الإصلاح.
في ركن من محل بمنطقة غرب مدينة الإسكندرية (شمال)، يجلس صلاح الإسكافي مبتسماً، يعمل بجد على إصلاح أجزاء مقطوعة من حذاء قديم، بينما يتحدث مع زبون آخر حول مدى أهمية الحفاظ على الأحذية لتخفيف الأعباء المالية في ظل ارتفاع الأسعار.
ويقول لـ"العربي الجديد": "الاهتمام بمهنة الإسكافي يتواصل على مدار العام، لكنه يتزايد في المواسم والمناسبات والأعياد، خصوصاً مع اقتراب بدء العام الدراسي الجديد، فنحن نُعيد الحياة إلى الأحذية والحقائب المدرسية البالية، ونوفر مبالغ طائلة على الأهالي. مع دخول شهر سبتمبر/أيلول من كل عام، تتراص الأحذية القديمة في كل مكان داخل المحل، وهي تتباين بين الأحذية الرسمية والمدرسية والرياضية، وكل منها يحمل قصصاً وذكريات، أتفحصها مع الزبائن بعناية قبل تقديم النصائح حول أفضل الطرق لتجديدها، وإصلاح عيوبها".
يتابع الإسكافي: "كلفة التصليح تختلف بحسب المجهود والخامات، وفي كل الأحوال، تعتبر مناسبة لكثير من الأسر، وأوفر لميزانياتها مقارنة مع شراء حذاء جديد، لذلك تتحول محال التصليح إلى أماكن نشطة يختلط فيها العمل بالأحاديث الودية، فكل زبون يأتي للبحث عن حل لمشكلة، لكنهم يغادرون بابتسامة بعد أن وجدوا ما يساعدهم على مواجهة بعض التحديات المعيشية".
من داخل ورشته العتيقة، يقول حسن ربيع، وهو أحد أقدم حرفيي تصليح الأحذية في مدينة الإسكندرية، إن ورشته التي ورثها عن أبيه، ومن قبله جده، تعمل منذ عشرات السنين في المجال نفسه، وتقدم خدماتها في تصليح الأحذية والحقائب والأحزمة، سواء كانت من الجلد الطبيعي أو الصناعي.
يرفض ربيع تكرار البعض أن مهنته أوشكت على الانقراض، ويؤكد أن "مهنة الإسكافي واحدة من أعرق المهن التراثية، وعمرها آلاف السنين، ويستحيل أن تندثر كون جل زبائنها من الفقراء، وقد شهدت خلال الفترة الأخيرة انتعاشاً كبيراً بعد انضمام الكثير من أبناء الطبقة المتوسطة إلى الفقراء بفعل الأزمة الاقتصادية".
وعن تطور المهنة، يشير ربيع إلى تزويد محال تصليح الأحذية والملبوسات الجلدية بالآلات متعددة الوظائف، والتي تكمل عمل الحرفي، وعلى الرغم من ذلك، فإن بعض الزبائن يرفضونها، ويطلبون أن يكون إصلاح الحذاء يدوياً، رغبة منهم في الاستفادة من احتراف ومهارة وإتقان الإسكافي. ويوضح: "رغم ازدهار المهنة في ظل هذه الظروف الصعبة، فإن ضعف المقابل المادي هو أحد أسباب تراجع إقبال الحرفيين على امتهانها، إلى جانب أنها مهنة متعبة، وتحتاج إلى مهارة ودقة لا تتناسب مع كلفة ترميم الحذاء الذي يتم الحصول عليه من الزبون".
يلتقط أسامة، وهو أحد العاملين بورشة إصلاح الأحذية، أطراف الحديث، ويقول إن المهنة تواجه تحديات كبيرة على مستوى ارتفاع أسعار المواد الخام المطلوبة للعمل، ومنها الخيوط والإبر والمسامير والإكسسوارات والجلود والأقمشة والغراء والكُلة اللاصقة، فضلا عن مصروفات صيانة الماكينات، والزيوت المستخدمة، وكلفة فواتير الكهرباء، ونفقات المحل من ضرائب وتأمينات ورسوم حكومية متعددة، الأمر الذي يلقي بظلاله على أسعار تقديم الخدمة للزبون.
يضيف أسامة: "لكل مهنة مشاكل وتحديات نتغلب عليها بالاعتياد، وإن كان أهمها نوعية الأحذية القديمة، والملوثة في كثير من الأحيان، إلى جانب انتشار المنتجات رديئة الجودة في مجالي الأحذية والحقائب، كون أسعارها زهيدة، ما يساهم في انصراف الناس عن إصلاح العيوب إلى شراء أخرى جديدة كونها منخفضة التكلفة".
انتقلنا من الورش والمحال الكبيرة إلى صغار الحرفيين، إذ يفترش بعضهم كرسياً ومنضدة صغيرة في الأزقة والحواري الفقيرة، أو في الأسواق الأسبوعية العشوائية، ويعتمدون على أدوات بسيطة وبدائية لتصليح الأحذية بأسعار أرخص من المحال.
يقول أحمد طارق الذي يفترش الطريق في سوق الجمعة بالإسكندرية، لـ"العربي الجديد"، إنه يعتمد على الزبائن "الغلابة" الذين يبحثون عن أرخص الأسعار لتصليح أحذيتهم، أو هؤلاء الذين تتمزق أحذيتهم فجأة في مكان قريب منه. ويضيف: "إضافة إلى تصليح الأحذية، نقدم خدمات تلميعها، وتلميع جاكيت الجلد، وإصلاح التلفيات بشكل احترافي، كي يستعيد أناقته بشكل ملفت، وتبدو الملبوسات الجلدية بعد تصليحها كأنها جديدة".
ويؤكد أن "المهنة كادت أن تندثر لولا سوء الأوضاع الاقتصادية والغلاء الذي أعاد الناس إلى الإسكافي، الذي أصبح مقصداً لكثير من الأسر الفقيرة، خاصة قبل بداية العام الدراسي، لإصلاح الأحذية والحقائب المدرسية بدلاً من شراء أخرى جديدة يمكن بثمنها المساهمة في احتياجات الأسرة الأخرى".
من جانبها، تقول الباحثة الاجتماعية نجلاء عبد المنعم، لـ"العربي الجديد"، إن "ظاهرة تسابق الأسر المصرية على تصليح الأحذية والحقائب القديمة قبل بدء العام الدراسي تعكس الواقع الاقتصادي الصعب الذي يعيشه كثيرون، فمع الارتفاع المستمر في أسعار الأحذية، يلجأ الآباء إلى خيارات اقتصادية للحفاظ على ميزانياتهم. يعتبر موسم العودة إلى المدارس فرصة للعاملين في مهنة الإسكافي للاستفادة المادية من زيادة الطلب على خدماتهم، ويعكس أيضاً تكيف المواطنين مع الظروف عبر إعادة استخدام الأشياء أو إصلاحها بدلاً من شراء الجديد، لكن من المهم أن نفهم أن هذه الظاهرة ليست مجرد نمط سلوكي؛ بل هي نتيجة مباشرة لضغوط مالية متزايدة، فالأسر تواجه تحديات كبيرة لتأمين الاحتياجات الأساسية، ما يدفعها للبحث عن حلول مبتكرة لتقليل النفقات".
وتؤكد عبد المنعم أن "الوضع الاقتصادي المتردي ساهم في ازدهار مهنة الاسكافي بعدما أوشكت على الاندثار، وانصرف عنها الكثير من روادها، قبل أن يعود العديد من المواطنين إلى إعادة تأهيل الأحذية القديمة لتكون صالحة للاستخدام مجدداً بدلاً من شراء أحذية جديدة".