لم يعد الأهالي في مدينة غزة وشمال غزة يبالون باستهدافهم خلال تجمعهم بانتظار وصول شاحنات المساعدات القليلة، هم الذين يدركون أن الموت يحاصرهم إما جوعاً وإما بقذائف الاحتلال.
لم يتردّد الاحتلال الإسرائيلي في استهداف الغزيين المتواجدين في مدينة غزة وشمال غزة خلال انتظارهم الحصول على المساعدات التي بدأت مؤخراً تدخل بصعوبة ومن خلال شاحنات معدودة عبر طريق واحد. فقد ارتكب عدداً من المجازر في حقهم، ما أدى إلى سقوط عشرات الشهداء وإصابة المئات.
وأدخلت مساعدات من جنوب القطاع إلى مدينة غزة عبر شارع الرشيد المحاذي لشاطئ بحر غزة، لكن الاحتلال الإسرائيلي لاحق الغزيين الذين كانوا ينتظرون المساعدات واستهدفهم ما أدى إلى سقوط شهداء وجرحى على مدار ثلاثة أيام، ثم انتقلت الشاحنات إلى شارع صلاح الدين ليلاحق الأهالي هناك وتطلق المدفعيات القذائف نحوهم.
قصف الاحتلال الأهالي بشكل مباشر أثناء تجمعهم للحصول على المساعدات، واعتدى على الأهالي مرتين في شارع الرشيد في منطقة الشيخ عجيلن، وثلاث مرات في شارع صلاح الدين بالقرب من نقاط من شارع ثمانية وأخرى عند شارع عشرة بالقرب من دوار الكويت.
مساعدات على خط النار في شمال غزة
تجمع مئات الفلسطينيين عند شارع الرشيد داخل حي الشيخ عجلين، لكنهم فوجئوا بفتح دبابة إسرائيلية نيران رشاشاتها الثقيلة نحوهم، وكانت تتمركز خلف تلة ترابية أعدها الاحتلال من أجل آلياته. استمر إطلاق النار لأقل من ساعة، وكانت الأجواء ماطرة والأرض طينية تشهد حالات انزلاق كبيرة.
وكان الاحتلال قد أعلن أن شارع الرشيد غرب مدينة غزة مفتوح كممر آمن من الساعة التاسعة صباحاً وحتى الرابعة مساءً. إلا أن هذا الإعلان يضاف إلى سلسلة أكاذيب روّج لها على منصاته الإعلامية الناطقة بالعربية وغيرها وأمام المجتمع الدولي، في الوقت الذي لا يتوقف عن ارتكاب المجازر.
كان شريف أبو الروس (25 عاماً) متواجداً في شارع الرشيد عند الساعة التاسعة صباحاً، حين علم بدخول الشاحنات التي تحمل الدقيق، ورافقه أبناء عمومتِه. وحين وصلوا إلى الشارع، الذي كان أحد أجمل شوارع غزة قبل أن يدمر بالكامل، في انتظار وصول الشاحنات، فوجئوا بوجود دبابة بالقرب من دوار النابلسي في شارع البحر، وكانت تقصف بشكل عشوائي ما أدى إلى إصابة طفل على مقربة منه.
يقول أبو الروس لـ "العربي الجديد": "حين بدأ الجيش بالقصف، تراجع الناس إلى الوراء، هم الذين كانوا يأملون الحصول على الدقيق. الجوع يفتك بالناس، لكن البعض تقدم إلى الشاحنة وحصل على الدقيق رغم إطلاق النار. للأسف، توجهت إلى الشاحنة مرتين لكنني لم أتمكن من الحصول على أي شيء، وعدت مكسور الخاطر. الناس تموت، وقد استشهد كثيرون أمام ناظريّ. وكان مشهد الطفل المصاب مأساوياً وبقي ينزف إلى أن أنقذه البعض بأعجوبة".
استقبل مجمع الشفاء الطبي الذي لا يزال يعمل بطاقة قليلة في علاج الجرحى، قرابة 100 شهيد وأكثر من 300 جريح خلال الحوادث الخمسة. وعلى الرغم من تكرارها، لا يزال الناس يتابعون أي أخبار عن دخول شاحنات المساعدات، في وقت تغيب المؤسسات الدولية في منطقة مدينة غزة وشمال غزة. وبالتالي، ما من جهة رسمية على غرار وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" قادرة على تسلّم المساعدات التي تدخل المنطقة المحاصرة. وتتوقف الشاحنات أمام التجمعات السكانية ما يسبب حالة من العشوائية والمشاكل بالإضافة إلى حالات اختناق وإغماء.
رغم كل ذلك، يستمر الناس بملاحقة المساعدات في تلك المناطق، كما يقول محمد الغول (35 عاماً)، موضحاً أن "الناس كانوا يتواجدون بالآلاف، وكان التزاحم كبيراً ما أصاب البعض بالإغماء هم الذين يعانون أصلاً بسبب الجوع وقلة المياه. مع ذلك، كان الجميع يسارعون لإحضار الطعام تحت أيِ ظرفٍ كان. وعند سماعهم إطلاق النار، يتراجعون وينتظرون أن يهدأ ثم يحاولون الحصول على المساعدات".
ويقول لـ "العربي الجديد": "حين أصيب البعض بالإغماء، لم نجد المياه لمساعدتهم. سقطوا وتابع الناس السير. الجوع في المنطقة المحاصرة يؤدي إلى كوارث. الناس لا تصدق حين تحصل على كيس من الدقيق. شخصياً، حصلت على كيس من الدقيق وبكيت. بكى كثيرون، إذ نعيش واقعاً صعباً جداً ونحن متروكون. لا نحب المذلة ونحاول الصمود في وجه الموت والبنادق والمدافع الإسرائيلية".
ويؤكد الغول وأبو الروس أن دخول المساعدات بدأ منذ قرابة 20 يوماً. تدخل شاحنتان أو ثلاث كل يومين وأحياناً يومياً. وقد دخلت خلال أربعة أيام 7 شاحنات، وهي أكثر مرة تدخل فيها شاحنات مساعدات منذ الهدنة ما بين 24 نوفمبر/تشرين الثاني وحتى الأول من ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
مجزرة مستمرة على دوار الكويت
بعد سقوط شهداء في شارع الرشيد بمدينة غزة، انتقلت شاحنات المساعدات إلى دوار الكويت الفاصل مع شارع صلاح الدين الشرقي وشارع عشرة الذي يفصل شرق غزة عن غربها. ويعدّ شارع صلاح الدين من أخطر شوارع القطاع وقد شهد عمليات إعدام كثيرة، رغم أنه كان في الشهر الأول من العدوان الإسرائيلي ممراً للنزوح.
وما يحصل في آلية إدخال المساعدات كارثي كما يقول محمود النونو (34 عاماً)، الذي يتواجد وسط مدينة غزة مع أسرته التي لم تنزح إلى الجنوب بسبب وجود أطفال بالإضافة إلى عدم قدرة والديه المسنين على النزوح. ويشير إلى أنه حين علم الناس بإدخال الشاحنات، صاروا يتجمعون على الطريق رغم وجود طائرات الاستطلاع.
ويقول النونو إنه كان شاهداً على مجزرة وقعت في 25 يناير/ كانون الثاني الماضي، حين قصفت المدفعيات الإسرائيلية غزيين كانوا ينتظرون المساعدات. عندما وصلت الشاحنة، تجمعوا حولها فأصابت القذائف الناس مباشرة، ما أدى إلى سقوط 20 شهيداً و150 جريحاً، نقلوا إلى مجمع الشفاء الطبي، وعولج المصابون على الأرض. ورافق النونو شقيقه مجد (19 عاماً) إلى المسستشفى، إذ كان بين المصابين.
ويشير النونو إلى أن الاحتلال الإسرائيلي تعمد مشاهدة الناس وقد تجمهروا ثم استهدفهم بالمدفعية، وقد أطلق أكثر من 8 قذائف نحوهم واستشهدت نساء وأصيب عشرات الأطفال. كما تقدم جيش الاحتلال إلى شارع الرشيد ومحيط منطقة دوار أبو مازن في حي تل الهوا وما بين منطقة الشيخ عجلين حتى يمنع الغزيين من العودة إلى شارع البحر. ويقول لـ "العربي الجديد": "الطائرات تراقب من السماء ويعلم الاحتلال أننا جائعون ونريد الحصول على أكياس الدقيق والمعلبات، لكننا تعبنا من تناول الخبز الذي لا نعرف محتواه، وإذا ما كان صحياً أو لا. أصبنا بالأمراض لأننا نشرب مياهاً ملوثة، نصارع من أجل البقاء وفوق ذلك نلاحق بالقتل والاحتلال نفسه يعرف أننا لا نشكل خطراً على أحد هنا".
حصل شقيق النونو أخيراً على كيس من الدقيق يزن 25 كيلوغراماً، وعاد إلى مجمع الشفاء الطبي حيث بدأ الناس يعدون الخبز لتناوله من دون شيء. ولاحظ وجود دماء على كيس الطحين وهو لا يعرف إن كانت دماء مصاب أو شهيد.
من جهته، يقول أيمن النونو (30 عاماً) لـ "العربي الجديد": "نحن نموت من الجوع ونموت عندما نتوجه لاستلام المساعدات. كتب علينا إما الموت في مكاننا داخل غزة أو في مجمع الشفاء الطبي أو خارجه. سيأتينا الموت حتى بعد حين، لكن لا بد أن نموت ونحن نقاوم من أجل الحياة وفلسطين. رغم المجازر، يخرج الناس الذين لا يكترثون للآليات العسكرية".