بارداً ومؤلماً يحلّ عيد الأُمّ، الذي يوافق 21 مارس/آذار من كل عام، على أكثر من 30 أمّاً فلسطينية أبعدت قوات الاحتلال الإسرائيلي أبناءهُن في العاشر من مايو/أيار عام 2002.
جاء ذلك عقب حصار كنيسة المهد في بيت لحم جنوب الضفة الغربية، الذي استمر لمدة 39 يوماً، من الثاني من إبريل/نيسان وحتى تاريخ إبعاد الشبان الفلسطينيين الذين لجأوا للكنيسة، إثر مطاردتهم من قبل الاحتلال في شوارع بيت لحم، 26 منهم أبعدوا إلى قطاع غزة، و13 آخرون إلى دول أوروبية منها إيطاليا وإسبانيا، ورغم وعود قُدّمت لهم بأن مدة الإبعاد لن تتجاوز العامين، مرّ على إبعادهم عن أمهاتهم وعائلاتهم نحو 20 عاماً.
حرمان مُتجدّد
لم يرَ جواد عبيات (44 عاماً) المُبعد إلى قطاع غزة وهو ابن مدينة بيت لحم، والدته علياء نووارة (61 عاماً)، منذ العام 2004، أي بعد عامين من إبعاده، حين تمكنت من زيارته هي وشقيقته في غزة، وبعدها حرمها الاحتلال من الحصول على أي تصريح إلى قطاع غزة، ولم يتمكن ابنها من ضم الورود في محلاتها لأخذ باقته إلى أمه، ولن ينحني لتقبيل يدها، ونيل رضاها ككل الأبناء في يوم الأُم منذ ذلك الوقت.
ولأن الهاتف يلبي جزءاً من احتياج الأمان الذي يبحث عنه جواد في صوت أمه، فهو ملاذه الوحيد، لكن صوتها يأتي مُتعباً محاولةً المكابرة، ودمعها عادة ما يغلبها.
يقول عبيات لـ"العربي الجديد": "أتمنى لك عمراً مديداً يا أمي، واللهم احمني حتى أراها بصحتها وعافيتها، عيد الأُم مميز جداً ومع قدومه أستصعب الأمر، فعيد الأضحى والفطر أتحملهما، لأنهما عيدان عامان لا يخصان أحداً، أما عيد الأُم فيؤلمني حلوله وأنا بعيد عنها منذ نحو 20 عاماً".
تزوج جواد عبيات الذي كان عمره لا يتجاوز 23 عاماً حين الإبعاد، دون أمه، وفي حين كانت تنتظره عروسه بقاعة أفراح في غزة، كان يحاول عبر الهاتف كفكفة دموع أمه في بيت لحم، التي فرحت له وزغردت وهي تمني النفس بلقاء قريب..
تعَب قلوب الأمهات
جلب الإبعاد لأمهات المبعدين التعب والأمراض، والدمعة التي لا تجف، فالحاجة علياء نواورة مصابة بمرض القلب، ورغم محاولة باقي أبنائها وهم أسرى محررون تعويضها لكنها ترى جواد في كل الناس، تقول نواورة لـ"العربي الجديد: "كل عام يأتي عيد الأُم وهو بعيد عني فكيف سيكون شعوري، ما أفعله هو البكاء، خاصة عندما هاتفني وسألني عن الهدية التي أرغب في أن يرسلها من غزة، فبكيت وقلت له: لا أريد إلا رؤياك، يكفيني أنه تزوج ولم أرَ أولاده ولا زوجته".
أربع حروب مرت على غزة، ليزيد ذلك خشية الفقد بعد الفراق لدى الحاجة نواورة على ابنها جواد عبيات الذي يقول: "تكفي أمي لوعة فراقي وإبعادي وفراق ثلاثة من إخوتي في الاعتقال على مراحل متفرقة منذ العام 1987 حتى اليوم، وما زال أخي زكريا في السجن، لكنه سيخرج من المعتقل بعد عيد الأم".
ومن غزة إلى إسطنبول تستمر رحلة الإبعاد لدى فهمي كنعان وهو ابن مدينة بيت لحم أيضاً، ولم يرَ والدته فدوى كنعان (77 عاماً)، إلا بعد 15 عاماً من نفيه في تركيا، وهي التي ذاقت أيضاً ويلات اعتقاله قبل إبعاده ومطاردته وحصاره مع رفاقه في كنيسة المهد ويبعد منزلها عن الكنيسة مسافة لا تزيد عن 250 متراً.
يقول كنعان لـ"العربي الجديد": "عندما كان يصادف يوم الأم ونحن بجانب أمي في بيت لحم، كنت أختار هدية مناسبة لها، ثم نفاجئها أنا وإخوتي بها، لكني اليوم لا أقدر إلا على قول كل عام وأنت بخير يمّا عبر الهاتف".
صوت المُبعدين الخافت والمتماسك
خافتاً يبدو صوت المُبعدين ومتماسكاً، ويتذكر كنعان أجمل أوقاته مع والدته بالقول: "كنت أرافق والدتي في زياراتها العائلية، وفي أماكن ومناسبات اجتماعية عديدة، وحتى في المنزل كنت أساعدها في الأعمال المنزلية، وهذه الذكريات ستبقى محفورة بالذاكرة".
يستذكر كنعان: "كانت أمي تحرسني خلال المواجهات، أذكر في انتفاضة العام 1987 أنها كانت تنزل للمواجهات لا لتشارك بل لتحميني من الرصاص أو الإصابة، وكلما كنت ألتفت كنت أجدها خلفي وألومها بالقول: يما روحي ع الدار، وترفض، وفي إحدى المرات، اعتقلني جنود الاحتلال فوصلت إلى الجيب العسكري ونهرتني بالقول: ليش قاعد عندك انزل، وحاولت تخليصي لكن أحد جنود الاحتلال كان سميناً وثقيل الوزن فلم تستطع تخليصي". ثم يضحك فهمي كنعان عندما تذكرعظمة أمه وهذا الموقف الذي صنفه بـ"النهفات" الجميلة لأمه المعروفة في بيت لحم بأنها كانت تخلص الشبان والأولاد من أيادي جنود الاحتلال وتنقذهم من الاعتقال.
الاشتياق النابض
"مشتاقة جداً لفهمي، وأتمنى أن يجمعني الله به، اللهم اجمعني به واجمع كل الأمهات بأبنائهن لنراهم ونحتضنهم ونجلس معهم، لقد طال البُعد، والعمر غير مضمون، ومن يدري هل نبقى أم نذهب، الله يجمعني فيه عن قريب بجاه محمد الحبيب".
"رضي الله عنه وجمعني به" هي الجملة التي لا تفارق لسان الحاجة فدوى كنعان طيلة مدة حديثها عن ابنها، وتسترجع أيامهما معاً في منزلهما في حارة الفواغرة وسط مدينة بيت لحم العتيقة، حين كانت لا ترغب في تناول إفطارها اليومي دون أن يكون ابنها فهمي بجانبها.
ورغم مرور ما يزيد على 20 عاماً في الإبعاد على تسعة وثلاثين مبعداً من مبعدي كنيسة المهد، توفي منهم عبد الله داوود من نابلس عام 2010، ما زال الأمل يحذوهم رغم وجع غربتهم وإبعادهم، مجددين مطالبهم بإعادة النظر في قضيتهم وبحثها على طاولة دولية يُجدي معها حلاً لآمال العودة، حيث يأتي يوم الأُم بمعنى حقيقي لا تبتعد فيه الأيادي، ويسمع المبعدون كلمة "الله يرضى عليك" دون هاتف.