حصد المزارع اليمني حاشد بن دايل محصول البرتقال من حقله في محافظة الجوف، بعد موسم طال انتظاره، لكنّ الفاكهة التي كان ينوي التوجه بها إلى سوق شعبي من أجل الحصول على مردود مالي ينسيه عناء أشهر عدة، سُحقت بانفجار لغم أرضي اصطاد مركبته في الطريق الصحراوي بمديرية خب والشعف، شمال شرقي المحافظة الواقعة قرب الحدود مع السعودية.
نجا بن دايل بعد خسارة بضاعته، لكنّ آخرين لم ينجوا، ففي النصف الثاني من يناير/ كانون الثاني الجاري، لقي عشرات من المزارعين ورعاة المواشي والمدنيين وسائقي الدراجات النارية المصير نفسه بسبب ألغام أرضية باتت تفخخ المساحات الزراعية والمناطق المأهولة بالسكان في محافظات يمنية مختلفة. فخلال أيام فقط من أواخر يناير الجاري، أودت ألغام أرضية، تُتهم جماعة أنصار الله (الحوثيين) بزرعها، بحياة امرأة في قرية كمران، شرقي محافظة الحديدة، فيما أصيبت امرأة أخرى من محافظة تعز بانفجار لغم أرضي، أثناء رعيها الماشية في بلدة الأنجاد، بالريف الغربي للمحافظة التي يطوقها الحوثيون من الاتجاهات كافة. نقلت المرأة إلى مستشفى "الثورة" بمدينة تعز، واتضح أنّ الانفجار بتر قدمها اليمنى، بما أنّ البلدة التي تقطن فيها ما زالت مفخخة بحقول واسعة من الألغام زرعها الحوثيون، وهو ما يهدد حياة عشرات الرعاة والمدنيين، وفقاً لما يقول مصدر محلي لـ"العربي الجديد".
ويلجأ الحوثيون إلى زرع الألغام بكثافة في المناطق التي يسيطرون عليها بهدف عرقلة تقدم خصومهم من القوات الموالية لحكومة عبد ربه منصور هادي، المعترف بها دولياً، لكن في حال طردهم من تلك المناطق، تبقى الألغام خطراً دائماً يمنع عودة النازحين إلى قراهم ومزارعهم، نظراً لتوزعها العشوائي، من دون خرائط تساعد في انتزاعها بسهولة مستقبلاً.
تشير تقارير حقوقية إلى أنّ محافظات تعز والحديدة والجوف هي المناطق الأكثر تضرراً من الألغام التي زرعها الحوثيون، ولا يكاد يمرّ يوم من دون تسجيل إصابة أو وفاة، خصوصاً بين سائقي الدراجات النارية بالساحل الغربي، كما حصل مع عبد الملك الجعشي، الذي كان يمرّ بدراجته عبر طريق فرعي في مديرية حيس، قبل أن ينفجر به لغم ويودي بحياته. وبحسب المرصد اليمني للألغام، المعني بتوثيق ضحايا الألغام والذخائر غير المنفجرة ومخلفات الحرب، فإنّ مناطق يمنية واسعة تطفو على حقول من الألغام العشوائية التي زرعها الحوثيون، إذ يرصد بشكل شبه يومي، سقوط ضحايا مدنيين، يلقى معظمهم حتفهم أثناء عبور الطرقات، أو في محيط منازلهم ومناطق الاحتطاب ورعي الماشية. وحتى في حال توقفت الحرب اليمنية، يُبدي المرصد تخوفه من الخطر الوجودي الذي تشكله الألغام والمتفجرات، ويقول إنّ المشكلة ستظل قائمة لعشرات السنين، فتهدد حياة المواطنين، وتعيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتعرقل جهود إعادة الإعمار.
قبيل اندلاع الحرب، أواخر عام 2014، كان اليمن على وشك التخلص رسمياً من الألغام والمتفجرات، لكن، بعد مرور خمسة أعوام من النزاع الذي بدأ بالتحول إلى أزمة منسية دولياً، باتت غالبية الأراضي ملوثة بأحجام مختلفة من الألغام والعبوات الناسفة وبقايا المتفجرات. وتقول تقارير حقوقية إنّ كمية الألغام التي زرعها الحوثيون خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب، جعلت اليمن أكبر حقل ألغام على مستوى العالم، وتحديداً منذ الحرب العالمية الثانية، فيما تتهم السلطات الحوثية التحالف السعودي الإماراتي بأنّه هو الذي يقف خلف القذائف غير المنفجرة التي تسببت بمئات من القتلى أو المصابين الذين باتت لديهم إعاقات متنوعة. ويشير مصدر في المركز الوطني لمكافحة الألغام إلى أنّ اليمن بموجب توقيعه على معاهدة أوتاوا لنزع الألغام، التي تنص على تحريم زرع وصنع واستيراد الألغام، دمّر مخزونه من الألغام بحلول عام 2007.
خلال سنوات الحرب الأخيرة، لجأت جماعة الحوثيين إلى عدد من الحيل في صنع الألغام بأشكال مختلفة بهدف اصطياد أكبر عدد من الضحايا. يقول محمد سليمان، وهو من سكان مديرية الخوخة في محافظة الحديدة، لـ"العربي الجديد"، إنّ العشرات من الألغام كانت مخفية في جذوع أشجار النخيل التالفة والمرمية على قارعة الطريق، كما كانت داخل صناديق بلاستيكية. يشير سليمان إلى أنّ جماعة الحوثيين فخخت المزارع والطرقات الفرعية في مناطق الريف الجنوبي للحديدة كافة بألغام فردية وليست مضادة للدروع، وهو ما جعل الساحل الغربي يشهد قصصاً مأساوية ذهب ضحيتها مدنيون، من بينهم رعاة. ويلفت إلى أنّ السكان فوجئوا مراراَ بتطاير المواشي والكلاب أشلاء في وضح النهار بعد مرورها فوق ألغام مضادة للأفراد.
من جهتهم، يقول خبراء إنّ عدداً من الألغام والعبوات الناسفة التي جرى انتزاعها في الحديدة، كانت تعمل بالأشعة تحت الحمراء، إذ تنفجر بمجرد مرور أيّ جسم من أمام عدستها حتى وإن كان طفلاً، وهو ما جعل السكان يهجرون بلداتهم في أرياف الحديدة الجنوبية طوال سنوات.
ولا يعرف على وجه الدقة عدد الضحايا المدنيين نتيجة الألغام على مستوى اليمن، لكنّ تقارير حكومة هادي تتحدث عن مقتل وإصابة 4200 مدني، بعضهم تعرض لإعاقة دائمة مع بتر في الأطراف. ووفقاً لمصادر، فإنّ غالبية الضحايا سقطوا في محافظتي الحديدة وتعز، ففي حين زرع الحوثيون غالبية مديريات الحديدة الواقعة على البحر الأحمر بالألغام، قال البرنامج الوطني لنزع الألغام التابع لحكومة هادي، إنّ 18 مديرية من أصل 23 في تعز كانت ملوثة بالألغام المضادة للأفراد والدروع.
وفي ظل تقديرات بزرع أكثر من مليون لغم في اليمن خلال سنوات الحرب الخمس، أعلن مركز "مسام" السعودي، العامل في نزع الألغام في المناطق التي خرج منها الحوثيون منذ منتصف 2018، أنّه انتزع أكثر من 186 ألف لغم حتى نهاية 2020. من جهتها، ذكرت وزارة الدفاع في حكومة هادي، في آخر إحصائية لها، أنّ إجمالي عدد الألغام التي انتزعها البرنامج الوطني ومشروع "مسام" السعودي ودائرة الهندسة العسكرية، يزيد على 350 ألف لغم أو مقذوف غير منفجر.
آثار طويلة الأمد:
قالت منظمة "أطباء بلا حدود" إنّ مأساة الألغام في اليمن لا تقتصر على القتل والإصابة، بل تمتد إلى حرمان السكان من سبل رزقهم، إذ هجر كثيرون حقولهم الزراعية. وتخلّف الألغام، وفقاً للمنظمة، أجيالاً من المشوهين وآثاراً طويلة الأمد، تمتد إلى المجتمع ككل، مرجحة أن يصبح ضحاياها أكثر انطواءً واعتماداً على المساعدة.