أعشاب ما قبل الموت... الاحتلال يستهدف جامعي النباتات الجياع

29 فبراير 2024
يتكلون على الأعشاب للعيش (محمد الحجار)
+ الخط -

لم يعد من خيارات أمام أهالي شمال قطاع غزة غير جمع النباتات وطهيها، في محاولة لسد الجوع الذي يقتلهم كل يوم، إلا أن الاحتلال لا يتردد في استهدافهم وقصفهم. 

لا يزال الجوع يفتك بالغزيين في شمال قطاع غزة، ويلاحقهم كابوس البحث عن الغذاء في لياليهم القاسية. بحثوا عن كل ما يمكن أن يؤكل، حتى أعلاف الحيوانات رغم صعوبة هضمها، وباتوا ينتظرون دورهم في الموت جوعاً. لجأ البعض إلى جمع النباتات من بعض الأراضي التي تنبت فيها، لكن الاحتلال يتربص بهم ويقنصهم. وحتى أولئك الذين خاطروا وتوجهوا إلى شاحنات المساعدات الشحيحة، استهدفوا. وأمس، أكد مدير الطوارئ في مستشفى الشفاء أمجد عليوة، في بيان، أن 70 شخصاً على الأقل قتلوا بنيران إسرائيلية أثناء تجمعهم للحصول على مساعدات إنسانية في شمال القطاع، فيما أصيب أكثر من 120 شخصاً بينهم نساء وأطفال.
مؤخراً، بدأ الغزيون يبحثون عن الأعشاب التي تنبُت في عدد من المناطق والمزارع، وخصوصاً تلك الموسمية التي تنبُت في فصل الشتاء كونها تحتاج إلى أمطار غزيرة، وتعتبر ضمن الأطباق الرئيسية للفلسطينيين شتاء. لكن لم يسلم الغزيون من طائرات الاحتلال خلال محاولتهم البحث عنها، هي التي تنبت في مناطق خالية ومكشوفة أمام الطائرات الإسرائيلية التي تراقب سماء غزة على مدار الساعة. 
يطلق الاحتلال الإسرائيلي النار بشكل متواصل على كل من يقترب من المناطق الشرقية والشمالية، والتي تضم بعض هذه النباتات. ويحاول البعض الوصول إلى تلك المناطق على أمل العثور على طعام وسط المنازل المدمرة، أو خلال تفقد منازلهم المدمرة القريبة من تلك المناطق. 
أصيب بسام الحمارنة في شرق بلدة جباليا عندما حاول الوصول إلى إحدى الأراضي الزراعية لجلب أي شي يؤكل. بقي الحمارنة وعائلته في شمال القطاع رغم نزوح أعداد كبيرة من أعمامه وأبنائهم إلى جنوب القطاع. وفي الوقت الحالي، يعانون من الجوع. يقضي ساعات طويلة يومياً بحثاً عن أي طعام حتى لو كان قطعة من البسكويت. ويحمل في يده زجاجات مياه فارغة لتعبئتها في حال العثور على المياه في أحد الخزانات المتواجدة داخل الأراضي التي أصبحت خالية. كما يبحث عن النباتات. لكنه أصيب بطلق ناري في أسفل ظهره أطلقه عليه قناص إسرائيلي. 

يتضور جوعاً (محمد الحجار)
يتضور جوعاً (محمد الحجار)

يقول الحمارنة إنه تشجع على تلك الخطوة لأنه تمكن من جمع  نبات الخبيزة التي استطاعت والدته الموجودة في إحدى المدارس في مخيم جباليا طهيها رغم عدم اكتمال عناصرها. لكنه كان سعيداً بذلك. وفي مرة أخرى، عثر على السبانخ، لكن في المرة الثالثة تقدم أكثر إلى إحدى الأراضي الخالية فأصيب بطلق ناري، وبقي بزحف أكثر من نصف ساعة حتى وصل إلى أحد المنازل وتمكن البعض من إغاثته. 
يقول لـ "العربي الجديد": "أنا ولد وحيد أبلغ من العمر 30 عاماً، ولديّ خمس شقيقات. لا تعلم والدتي كيف تمكنتُ من جمع النباتات، فالجوع يقتلنا. في أيام كثيرة، كنت أحضر طعاماً قليلاً. وحين أعود للفصل الدراسي الذي أصبح ملجأنا، أخبر والدتي أنني تناولت الطعام مع أصدقائي علماً أنني أكون جائعاً جداً. البحث عن النباتات أصبح أمراً شائعاً في منطقتنا المحاصرة".
يضيف: "طائرات الاحتلال تتبعنا طوال الوقت. وضعت راية بيضاء في جيبي خلال توجهي إلى المنطقة إذ أدرك أنني أحمل روحي على كتفي. أنا على قناعة أنني سأموت هنا أو هناك، وأعرف أنه في حال حدوث أي مكروه، سأرفع الفانيلة البيضاء إذ إن العلم غير متوفر. الإصابة كانت في الظهر وأراد القناص قتلي. لحسن حظي أنني نجوت من الإصابة بالشلل". 

غزة (محمد الحجار)
تنتظران الحصول على طعام (محمد الحجار)

عدد كبير من النباتات والأعشاب التي يحتاجها الغزيون تنبت في أراض شرقية وأخرى شمالية وبالقرب من المزارع، كما يشير الحمارنة، هو الذي كان قد عمل مع أحد المزارعين. ويخبر أن أربعة أشخاص من المقيمين في المدرسة أصيبوا أيضاً حين اقتربوا من المنطقة الشرقية لبلدة جباليا والمنطقة الشرقية من منطقة تل الزعتر في شمال القطاع.
النباتات التي يجدها البعض هي الخُبّيزة والحماصيص والحُمِّيض والسلق والملوخية والسبانخ وحتى نبات الرجلة وعدد من النباتات الخضراء التي يستخدم بعضها في الطب الشعبي أو كإضافات للأطعمة. واعتاد الغزيون التوجه إلى الأراضي التي تنبت فيها هذه النباتات خلال فصل الشتاء لإعداد أطباق تدخل ضمن المطبخ الفلسطيني.  
أحد النازحين في مدرسة غزة الجديدة في حي النصر بمدينة غزة، ويدعى أحمد الزعانين (40 عاماً)، كان يعمل مزارعاً في أرضه الزراعية في بلدة بيت حانون، وقد أعدّ أطباقاً للنازحين تعتمد على الأعشاب مثل الملوخية والحماصيص والسبانخ ونبات الرجلة، في إطار مبادرة تعتمد على جمع ما أمكن من غذاء لإعداد الطعام بشكلٍ يومي. لكن في الأيام الأخيرة، بات الاستمرار في المبادرة صعب بسبب قلة الطعام.

غزة (محمد الحجار)
بعض الناس يجمعون أعشاباً ضارة من أجل طهيها (محمد الحجار)

الزعانين موجود داخل المدرسة مع العشرات من أفراد عائلته. في يناير/ كانون الأول الماضي، كانوا يجمعون ما تيسر من أطعمة، من بينها الأرز، بهدف الطهي لجميع الناس. لكن الكمية نفدت، فاقترح على الناس جمع الأعشاب والنباتات لأنه يملك خبرة فيها، وكان يعد الطعام منها. على مدار أسبوعين، أعد هو وآخرون أطعمة قائمة على الأعشاب، ثم أصبح الحصول عليها مستحيلاً. يوضح أن بعض هذه الأعشاب كانت تنبت في الشارع، وكان يتم جمعها لبيعها في بعض الأسواق. ويشير إلى أن أحد أقاربه ويدعى مؤمن الزعانين (19 عاماً) أصيب في إحدى الأراضي الزراعية جنوب حي تل الهوا من أجل الحصول على بعض النباتات من تلك المنطقة.
يقول الزعانين لـ "العربي الجديد": "نحن في مرحلة جوع قاتل. أتحدث معكم وأشعر بجوع شديد وأبحث عن أي طعام طوال اليوم. بعض الناس أحضروا أعشاباً ضارة ونباتات شوكية من أجل طهيها. ولولا أنني مزارع وأعرف اختيار الجيد منها، لكان الناس أكلوا كل ما هو موجود وتضررت صحتهم". يضيف: "المنطقة الشرقية وبعض المناطق المفتوحة التي تضم أراضٍ خالية تنتشر فيها الأعشاب الخضراء لكن الوصول إليها صعب في الوقت الحالي. بعض الذين حاولوا الوصول تعرضوا لإطلاق النار. لا نستطيع إجبار أحد على الذهاب إلى هناك. بعض الناس لا يبالون لأن الجوع يقتلهم. أكبر دليل أنهم انتظروا شاحنات المساعدات وقتلوا، وفي الوقت نفسه يواجهون الموت جوعاً". 

غزة (محمد الحجار)
جسدهما منهك بسبب الجوع (محمد الحجار)

تجدر الإشارة إلى أن دخول المساعدات إلى المنطقة المحاصرة تعطّل مرات عدة بسبب الاستهداف الإسرائيلي للمتواجدين في المنطقة الشمالية وسقوط مئات الضحايا والإصابات، وخصوصاً في منطقة شرق غزة وشارع البحر. وكانت هناك محاولات عديدة لإدخال المساعدات مؤخراً، وقد انتظر الغزيون وسط الازدحام، من دون أن يحصلوا على شيء.
من جهته، جمع محمد العامودي (38 عاماً) الكثير من النباتات من الأراضي الواقعة قرب منزله المدمر في حي الكرامة شمال القطاع، لكنها لم تعد متوفرة لأنه باع منها لبعض الناس على مقربة من مجمع الشفاء الطبي ووسط تواجد النازحين من أجل شراء الحاجيات، مثل الخبيزة والملوخية. لكن عندما لم يجد طعاماً بديلاً، بدأ يعتمد عليها لإطعام أسرته التي تتواجد داخل إحدى المدارس بالقرب من حي الشيخ رضوان بمدينة غزة.

غزة (محمد الحجار)
مبادرات قليلة لاطعام أهالي الشمال بما تيسر (محمد الحجار)

يقول إنه في الأشهر الماضية جمعوا في المنطقة الشمالية بمدينة غزة وشمال القطاع بعض الأرز والبهارات والدقيق والمعلبات من أجل بيعها للناس، لكن جميعها نفدت في الأسابيع الأخيرة، وصارت الأطعمة التي لم يتصوروا أن يتناولوها خيارهم الأخير من بينها نباتات الشتاء.
يقول العامودي لـ "العربي الجديد": "انتهت حلول الأرض ونتطلع إلى حلول السماء. لحسن حظنا أننا في فصل الشتاء حيث تنبت بعض النباتات. وجدنا السبانخ والسلق. في بعض الأيام، نضيف أوراق الشجر إلى كل ما نطهوه علنا نشعر بالقليل من الشبع. الناس تأكل كل ما هو أخضر، إذ نشهد حالات وفاة جراء سوء التغذية". يضيف: "في بعض المرات لا نعرف شكل النبات. أعرف نبات الخبيزة والملوخية والسلق. لكن هناك نباتات نأكلها قبل أن نطبخها، علماً أن بعضها حامض جداً أو نكهته غريبة. وفي معظم المرات كنا نسلقها ونعد معها الخبز أو الأرز. لكن لا يوجد شيء الآن، وكلنا جياع". 

المساهمون