بات الكثير من أطفال غزة يتامى وقد فقدوا الأب والأم وحتى الأشقاء، ومنهم من خسروا أقاربهم أيضاً أو لا يستطيعون الوصول إليهم، ليعيش هؤلاء مع عائلات الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء، وسط حالة من الصدمة المستمرة.
خسر عدد كبير من الأطفال خلال العدوان الإسرائيلي الحالي على غزة ذويهم جراء استهداف منازلهم بشكل مباشر، وانتقل البعض إلى الإقامة مع من تبقى من أقاربهم أو جيرانهم أو أصدقاء العائلة، خصوصاً في حال بقاء الأقارب في المناطق المحاصرة. ويواجهون الآن مصيراً مجهولاً.
وتعمّد الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الإبادة الجماعية الحالية قصف منازل المدنيين، وقد ارتكب حوالي 2119 مجزرة بحقّ عائلات بالكامل استناداً إلى بيانات المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، فيما نجت أعداد قليلة من كل عائلة ومنهم أطفال. وكان آخر هذه المجازر صباح الاثنين في 22 من الشهر الجاري، أي في اليوم الـ 108 للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وارتكب الاحتلال 20 مجزرة بحق العائلات راح ضحيتها 190 شهيداً و340 إصابة. وشهدت الأيام الأخيرة ارتفاعاً في حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي. وعلى امتداد فترة العدوان، انتشرت فيديوهات تظهر أطفالاً كانوا على مقربة من جنازة وجثامين ذويهم الذين فقدوهم بالكامل، وكانوا الناجين الوحيدين من القصف الإسرائيلي.
داخل مخيم البريج وسط قطاع غزة، نجا الطفل محمد الأسعد (12 عاماً) من القصف الإسرائيلي الذي لحق بمنزلهم وسط المخيم في منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، وكان الناجي الوحيد في أسرته التي استشهد جميع أفرادها، وكان داخل المبنى الذي قُصف عدد من أقربائهم النازحين الذين قضوا شهداء في القصف، كما يشير الطفل محمد.
محمد اليوم في مدينة رفح جنوب القطاع برفقة ثلاث من خالاته اللواتي كن قد تفرقن في منازل ما بين مخيم البريج ومخيم المغازي، قبل أن تصلهن التهديدات الإسرائيلية ويتلقين مناشير من الطائرات لمغادرة المخيم على الفور. كما نجت إحدى خالاته من قصف مباشر لمنزلها فيما استشهد أفراد من عائلة زوجها، وهو الآن داخل فصل دراسي برفقة خالاته.
تهتم الخالة آمنة (35 عاماً) بمحمد، وحرصت على مرافقته في رحلة علاجه داخل مستشفى شهداء الأقصى في مدينة دير البلح، وتقدم له الرعاية منذ أن فقد أسرته، علماً أنه يعيش حالة نفسية صعبة، عدا عن المعاناة الأخرى من نقص الغذاء والأدوية وغير ذلك من الأساسيات. وبدأ يفكر في ما سيحل بمستقبله حين تنتهي الحرب، بعدما خسر كل شيء.
يقول محمد لـ "العربي الجديد": "كنا نائمين في المنزل، وبدأ القصف من دون أية تحذيرات مسبقة. استشهد والدي ووالدتي وإخوتي الستة، وكنت الناجي الوحيد في المبنى. أصبت بكسر في الحوض ويدي اليسرى. خضعت للعلاج لكن لا يزال ينقصني الكثير، كما أخبرني الطبيب وخالتي. أريد أن ينتهي هذا العدوان".
لدى خالته آمنة طفلان، وهي مطلقة وتعيش في منزل جدته التي تقدم لها الرعاية بدورها. وتقول لـ "العربي الجديد": "تعرفت على عدد من الأطفال الذين يعيشون مع أسر أخرى من أقاربهم أو جيرانهم كحال محمد، الأمر الذي ساهم في التخفيف قليلاً من الصدمة. حين يستيقظ، يتمنى لو أن ما حصل معه كان مجرد كابوس، وأن يجد أمه وإخوته ووالده معه. سأبذل كل جهدي للعناية به خلال العدوان وبعده".
من جهة أخرى، يوجد بعض الأطفال مع أصدقاء عائلاتهم أو الجيران، كونهم عاجزين عن الوصول إلى أقاربهم الذين لم ينزحوا من مدينة غزة وشمال القطاع، كحال الطفل سهّم علوان (8 سنوات) الذي يعيش النزوح مع جيرانه في حي النصر وتحديداً صديقة والدته.
نجا سهّم بعد قصف منزل جده الذي يقع على مقربة من منزله في الحي، واستشهد 10 أفراد من عائلته من بينهم والده ووالدته وشقيقه الأكبر منه في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كان قد نقل في سيارة الإسعاف برفقة أسرته، وكان وجهه مضرجاً بالدماء لكنه لم يصب بأي أذى. ويعتقد أنه كان في حضن والدته التي استشهدت؛ الأمر الذي حماه، كما أخبرته صديقة والدته آلاء أبو ضاهر (36 عاماً).
كانت الأخيرة تعمل برفقة والدته معلمة في رياض الأطفال، وكانت هناك علاقات جيدة بين الأسرتين. تشير إلى أنها تتولى اليوم رعاية سهّم مع ابنيها داخل إحدى الخيام التي توجد في مدرسة ذكور رفح الإعدادية وسط المدينة. تلاحظ أنه بدأ يتحدث ويلعب خلال الشهر الحالي رغم أن الأوضاع تزداد سوءاً. تقول أبو ضاهر لـ "العربي الجديد": "استشهدت الأم والأب وشقيقه الوحيد، ولم يتمكن من الكلام إلا بعد أربعة أيام، ليقول إن أمي وأبي في الجنة. ثم سألني إن كان في استطاعته الذهاب إلى الجنة والموت من دون أن يشعر بالألم. بكيت بعدما نام إلى جانب ابنيّ".
تضيف: "هذه الحرب هي الأخطر في تاريخ قطاع غزة، إذ تجعل طفلاً بهذه البراءة يفكر في الموت. في المدرسة نفسها، رأيت عدداً آخر من الأطفال الذين يعيشون أوضاعاً مماثلة. لكنه يختلف عنهم لأن بعض الذين استشهد والدهم ووالدتهم كانوا مع جداتهم أو خالاتهم أو عماتهم. إلا أن أقارب سهّم لا يزالون داخل مدينة غزة وهم عاجزون عن الوصول إلى هنا".
كان مُهاب زقوت (4 سنوات) وجدته عزيزة زقوت (57 عاماً) الناجيين الوحيدين من القصف الإسرائيلي الذي استهدف مربعاً سكنياً في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، وكانا قد نزحا وأفراد العائلة الآخرين من شمال قطاع غزة إلى حي الشيخ رضوان لدى أقاربهما الذين بقي منهم خمسة ناجين فقط، بمن فيهم الطفل والجدة.
استشهد 8 أفراد من عائلة زقوت واثنان من أعمامه وخاله وجده، وبقي وحيداً مع جدته. يقول إن "أبي وأمي ذهبا إلى الجنة"، وما زال يعاني من أعراض ما بعد الصدمة كلما سمع قصفاً إسرائيلياً داخل أحد المنازل بمدينة رفح.
تقول جدته عزيزة لـ "العربي الجديد": "لا أعرف من أين أبدأ. هل أحزن على فقدان زوجي أو أبنائي؟ نجوت ومُهاب بأعجوبة قبل الهدنة بيومين. حالياً، أعتني بطفل وكأنني أمه، علماً أنني أعاني من الضغط والسكري وقدمي لا تزال مكسورة وتحتاج إلى عملية. الحمد لله أن الطفل لم يصب بأي أذى".
وأعلنت وزارة الصحة التابعة لحركة حماس، أمس، ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 25.700 غالبيتهم من النساء والأطفال، منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. وأشارت إلى إصابة 63.740 شخصاً بجروح منذ بداية الحرب. وتشمل الحصيلة مقتل 210 أشخاص في الساعات الـ 24 الأخيرة التي شهدت قصفاً عنيفاً على خانيونس، كبرى مدن جنوب قطاع غزة ومناطق أخرى في القطاع المحاصر. ومعظم الشهداء في قطاع غزة هم من النساء والأطفال، وفق الحكومة ومنظمات غير حكومية ودولية. واتهم مكتب الإعلام الحكومي لحماس إسرائيل بقصف مدارس تؤوي نازحين في محيط مستشفى ناصر في خانيونس ما أدى إلى وقوع شهداء، مجدداً القول إن إسرائيل تستهدف المستشفيات "لإخراجها عن الخدمة وتدميرها".
وكان المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، جيمس إلدر، قد أعلن أن قطاع غزة "هو أخطر مكان في العالم للطفل"، مضيفاً أنه يوما بعد يوم "يتعزز هذا الواقع الوحشي". وأكد أن الأطفال وأسرهم "ليسوا آمنين في المستشفيات أو في الملاجئ. وهم بالتأكيد ليسوا آمنين في ما يسمى بالمناطق الآمنة". وأوضح أن الأمم المتحدة قالت منذ أكثر من شهر إن تلك المناطق الآمنة لا يمكن أن تكون آمنة أو إنسانية عندما يتم الإعلان عنها من جانب واحد.
وكان نائب المديرة التنفيذية لـ"يونيسف" تيد شيبان قد أعلن أن قطاع غزة هو أخطر مكان في العالم للأطفال في ظل التحول من كارثي إلى شبه الانهيار. وعقب إنهاء زيارته غزة قال إن أكثر من 220 ألف شخص في شمال القطاع لا يحصلون على المياه النظيفة، وبالكاد يتوفر لديهم أي طعام، وآلاف الأطفال يعانون من سوء التغذية والمرض. وبحسب "يونيسف" ولد نحو 20 ألف طفل في ظل الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر الماضي.