يكاد لا يخلو محل في المنطقة الصناعية بمدينة السويداء، من طفل أو مراهق، إلى حد يصعب فيه إحصاء أعداد هؤلاء الأطفال الذين يعملون في عدد من المهن الخطرة لساعات طويلة، ومن دون أي حماية أو رعاية صحية.
تتراوح أعمار غالبية "الصنايعية" من الأطفال السوريين بين 12 و15 سنة، وقد أرغم غالبيتهم على العمل في ورش الحدادة أو صيانة السيارات ومعامل البلوك كونها توفر لعائلاتهم مورداً معيشياً، في غياب أي اهتمام من مؤسسات حماية الطفولة أو الرعاية الاجتماعية، وتجاهل المنظمات الأممية والدولية.
ترك الطفل يامن جبر (13 سنة) المدرسة قبل أن يكمل الصف السادس الابتدائي ليعمل في محل كومجي- بنشر (تصليح سيارات وإطارات)، ويقول لـ"العربي الجديد"، إن حكايته لا تختلف كثيراً عن حكايات باقي أقرانه من الأطفال العاملين في المنطقة الواقعة شمالي المدينة، والبعيدة نسبياً عن أماكن سكنهم. يضيف: "معظمنا ترك المدرسة ليُعيل أسرته، وجميعنا يعمل طوال الأسبوع منتظراً استلام (جمعيته) في كل يوم خميس، ليسدد بعض ديون المنزل للبقال، أو يدفع فواتير شركات الهاتف والكهرباء وغيرها، وأفضلنا حظاً هو من يحصل على إكراميات من الزبائن".
في الأماكن التي يتعامل بها الأطفال مع الزبائن بشكل مباشر، مثل ورشات صيانة السيارات، يقومون بمراعاة خدمة الزبون، فالإكرامية عادة توفر مالاً أكثر من الأجرة الأسبوعية التي تتراوح بين 40 و50 ألف ليرة سورية، ومبلغ الأجرة يخصص غالباً لدفع تكلفة المواصلات وثمن وجبة الفطور خلال فترة العمل التي لا تقل عن 8 ساعات يومياً، وقد يزيد عدد ساعات العمل خلال فصل الصيف.
يعمل لدى الكومجي محسن العلي 3 أطفال تتراوح أعمارهم ما بين 13 إلى 17 سنة، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن جميع الأطفال العاملين في المنطقة الصناعية "يعملون بطلب من ذويهم، وأن هناك تواصلا دائما بين رب العمل وأسرة الطفل. ما يحصل مع هؤلاء الأطفال هو نتيجة حتمية لانعكاسات الحرب المستمرة منذ 12 عاماً، وهو وسيلة لتجاوز الفقر والجوع، وأفضل من الهجرة، ويتزامن مع تراجع الإقبال على المدارس، فتعلم حرفة أو صنعة بات مفضلاً لدى كثيرين".
يضيف: "نحن كحرفيين نشكل الخيار الأفضل لتشغيل الأطفال واليافعين، إذ نعلمهم مهنة يعتاشون منها، وتحميهم سلبيات البقاء في الشارع الذي يشكل الخيار البديل. قوانين منع عمالة الأطفال السوريين غير منطقية، وعلى الحكومة أن تكفل لهم أولاً سبل العيش بكرامة قبل أن تحاسب من يقوم بتشغيلهم".
ويحتفل العالم في 12 يونيو/ حزيران من كل عام، باليوم العالمي لمكافحة عمالة الأطفال، والذي حددته منظمة العمل الدولية لتركيز الاهتمام على مخاطر انتشار ظاهرة عمالة الأطفال في العالم، وتنطلق من حين لآخر مبادرات أُممية لحماية الأطفال من العمالة لكنها في معظمها لا تلامس واقع الطفل السوري في مخيمات اللجوء أو في مناطق حكم النظام.
قانون العمل السوري يمنع تشغيل الأحداث قبل بلوغ سن الخامسة عشرة
يمنع قانون العمل السوري تشغيل الأحداث قبل إتمام مرحلة التعليم الابتدائي أو بلوغ سن الخامسة عشرة، مع الإشارة إلى أن تشغيل الأحداث الذين أتموا هذه السن ليس متاحاً في جميع المهن، إذ حظر قرار وزاري صدر في عام 2010، تشغيل الأحداث في عدد من الأعمال والمهن التي تؤثر على تركيبهم الجسماني والنفسي، كما منع صاحب العمل من تشغيل الحدث لأكثر من ست ساعات يومياً، أو تكليفه بعمل إضافي، أو تشغيله في العمل الليلي، إضافة إلى أنه ألزم صاحب العمل قبل تشغيل أي حدث بأن يطلب من وليه أو الوصي عليه مستندات تشمل إخراج قيد مدنيا، وشهادة صحية صادرة عن طبيب مختص تثبت مقدرته الصحية على القيام بالعمل الموكل إليه، وموافقة الولي أو الوصي الخطية على العمل، وكذلك منح الحدث إجازة سنوية مدتها ثلاثون يوماً بغض النظر عن مدة الخدمة.
تقول موظفة في مديرية الشؤون الاجتماعية والعمل في السويداء، طلبت عدم ذكر اسمها، لـ"العربي الجديد": "دفع الفقر وتردي الأوضاع المعيشية العديد من الأسر إلى إلحاق أبنائها بسوق العمل طوعاً، حتى باتت هذه الظاهرة تشكل كارثة إنسانية لا يمكن تجاوزها من دون حل شامل للمشكلة السورية، وكل ما يجري من حملات توعية أو دعم نفسي وتمكين من قبل الوزارة أو منظمة العمل أو منظمة يونيسف وغيرهم، لا يتعدى الفقاعة الإعلامية، فالحملات الإعلامية والندوات ليست سوى مسكنات لمرض يشوّه الأطفال نفسياً وجسدياً".
ولا تقتصر عمالة الأطفال على الذكور، فالعديد من الحرف مثل أعمال التجميل والخياطة والتطريز وصناعة الخبز والحلويات بالإضافة إلى المحال التجارية والأعمال الزراعية تشغل فتيات حديثات السن، وإن ظلت أعدادهن أقل من الذكور.
تعمل الفتاة راميا (15 سنة) مندوبة مبيعات لصالح متجر أدوات تجميل في مدينة السويداء، وتقول لـ"العربي الجديد": "أحمل حقيبة تزن نحو 5 كيلوغرامات، وأجول برفقة زميلة لي على المنازل للبيع. أكره هذا العمل، لكنه يوفر لي مالاً يقي إخوتي الصغار من الجوع بعد طلاق والدي، وتخليهما عن إعالتنا. كنت في البداية أخجل من قرع الأبواب، وأخشى أن يفتح لي أحد زملاء المدرسة قبل أن أتركها، واليوم، مع زيادة الحاجة، أصبح همي الوحيد هو حجم المبيعات والمردود. أشعر أنني كبرت عدة سنوات، كما أشعر أن الشهور التي قضيتها في هذا العمل غيرت شكلي؛ ربما اكتسبت أشياء من العمل، لكني أيضاً خسرت الكثير، فقد كنت أتمنى أن أظل طفلة".
يقول الناشط المدني منيف رشيد لـ"العربي الجديد": "نحن أمام تحول كبير في بنية المجتمع السوري، وتتمثل الكارثة في ظهور أجيال مختلفة الوعي والثقافة ومحدودة التعليم، إلى جانب الآثار السلبية على البنية الجسدية والنفسية، بينما كل ما يُشاع حول فعاليات أو مبادرات لوقف عمالة الأطفال، أو توعية المجتمع بأضرار التسرب من المدرسة لا يلامس أساس المشكلة، فالطفل يحتاج إلى بيئة حاضنة متعافية من الفقر والجوع والبرد والتشرد والنزوح، وهذه لا يمكن توفيرها بمبادرات التوعية، فالندوات والمحاضرات وحملات الإعلام لا يمكنها أن تشبع الطفل الجائع".