أطباء غزّة وممرّضوها... كواليس العمل القاسية خلال المجازر

09 سبتمبر 2024
نقل طفل مصاب إلى مجمع ناصر الطبي للعلاج (بشار طالب/ فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **مجزرة المواصي وتحديات الطواقم الطبية:** في 13 يوليو، ارتكب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في منطقة المواصي، مما أدى إلى وصول مئات المصابين وأكثر من 90 شهيداً إلى مجمع ناصر الطبي، حيث واجه الأطباء نقصاً في المستلزمات الطبية وكثرة أعداد المصابين.

- **تجارب الأطباء في مجمع ناصر الطبي:** الطبيب حازم ضهير يعمل في ظروف استثنائية، يواجه نقصاً في المستلزمات الطبية ويضطر لاستخدام بدائل غير طبية، مما يزيد من التحديات اليومية.

- **قصص الطواقم الطبية تحت الحصار:** الطبيبة ياسمين سويدان والطبيبة نسمة أبو شباب تعملان في ظروف صعبة، تتعاملان مع إصابات خطيرة وشهداء، وتواجهان تحديات كبيرة في تقديم الرعاية الطبية.

بمجرد وصول معلومات عن ارتكاب جيش الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في منطقة المواصي غربي محافظة خانيونس، صباح يوم 13 يوليو/ تموز الماضي، بعد دوي ثلاثة انفجارات ضخمة، توالى وصول سيارات الإسعاف وسيارات المواطنين المدنية لنقل مئات المصابين وأكثر من 90 شهيداً، ليعيش الأطباء والممرضون والممرضات بقسم الطوارئ في مجمع ناصر الطبي أصعب أيام حياتهم، مع امتلاء الأسرّة بالمصابين الذين فاقت أعدادهم قدرات المستشفى الاستيعابية، فافترشوا ممرات الأقسام وأرضيته.
يعمل الأطباء والممرضون والممرضات في قطاع غزة في أوضاع استثنائية منذ بدء العدوان الإسرائيلي في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهم أشبه بـ"خلية نحل" في أوقات الطوارئ. يحاولون إسعاف الجرحى وتضميد جراحهم رغم قلة الإمكانيات ونقص المستلزمات الطبية وكثرة أعداد المصابين. عاش بعضهم الحصار واعتقل آخرون واستشهد العشرات من الطواقم الطبية نتيجة استهدافهم المباشر من قبل جيش الاحتلال، وهم يكافحون بين أداء مهنتهم وعيش حياة التهجير الصعبة في الخيام.

داخل قسم الطوارئ في مجمع ناصر الطبي، يتجول الطبيب المتخصص في أمراض القلب والشرايين حازم ضهير بين الأقسام. كان المستشفى هادئاً، لكن مشهد الهدوء قد ينقلب في أية لحظة في حال ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة في المحافظة وإعلان حالة الطوارئ داخل القسم.
يقول ضهير الذي كان يضع خافض اللسان الخشبي في جيب ردائه الطبي، ويلف رقبته بالسماعة الطبية، لـ"العربي الجديد": "الهدوء أمر غير طبيعي بالنسبة إلينا لأننا اعتدنا على وجود شهداء وإصابات بسبب استمرار جرائم الاحتلال، خصوصاً في الأوقات التي يخرج فيها المستشفى الأوروبي الواقع شرقي المحافظة عن الخدمة، عندما يجتاح الاحتلال المناطق الشرقية، أو يكون مستشفى شهداء الأقصى وسط القطاع مهدداً، بالتالي يصبح الضغط علينا كبيراً".
يعمل ضهير، وهو أحد قادة فرق الطوارئ، ضمن خطة متعددة الإرشادات للتعامل مع الإصابات بحسب خطورتها. ويوضح أن "كل مصاب يرافقه طبيب وممرض يعملان على وقف النزيف وإجراء صورة الأشعة والتحليل وتقديم العلاج وتزويده بالسوائل والدم، ثم يُستدعى أطباء العظام أو الأوعية الدموية أو الجراحين، وقد يساعدنا زملاء من أقسام أخرى أثناء الضغط".
يقف ضهير في غرفة العناية المركزة الخالية من المرضى والأسرّة باستثناء حالة واحدة، لكنه يتذكر القسم لحظة ارتكاب المجازر. يقول: "المشهد يصبح مختلفاً. تصل حالات إصابات خطيرة، لذلك يكون قائد الفريق الطبي موجوداً على بوابة صالة الاستقبال لتوجيه الشهداء إلى المشرحة، والإصابات الخطرة إلى المنطقة الحمراء (غرفة العناية) أو المنطقة الخضراء للخيام الطبية في ساحة المستشفى في حال كانت الإصابات طفيفة، أو المنطقة الصفراء داخل قسم الطوارئ".
تحفظ ذاكرته مئات المشاهد العالقة لأحداث صعبة ومصابين وشهداء مروا عليه. أكثر ما يؤلمه هو مشاهد الإصابات وعمليات البتر للأطفال. يقول: "هذه المشاهد عالقة في ذهني".
فضلاً عن تلك الضغوط، يواجه ضهير وغيره من الطواقم الطبية قلة المستلزمات اللازمة لجراحة العظام والأوعية، ونقصاً في الشاش الطبي والمعقمات، فيضطر الأطباء لاستخدام شاش غير طبي بديلاً. 
وضهير طبيب مهجر في مخيم النصيرات وسط القطاع، ويعيش ويلات التهجير داخل خيمة وأمامه مسؤوليات كبيرة لتوفير المياه ومتطلبات الحياة اليومية لأطفاله. يأتي إلى مجمع ناصر الطبي في خانيونس بواسطة حافلات نقل توفرها وزارة الصحة، ويداوم ثلاث مناوبات أسبوعية بمجموع عدد ساعات 48 ـ 56 ساعة، وفق نظام عمل تُقسّم فيه الطواقم الطبية إلى فرق لديها ساعات عمل وأيام محددة بحسب جداول زمنية موضوعة وفق خطة متكاملة.

يقسم الجرحى بين الأطباء والأقسام بسبب درجة إصابتهم (بشار طالب/فرانس برس)
يقسم الجرحى بين الأطباء والأقسام بحسب درجة إصابتهم (بشار طالب/فرانس برس)

على مقربةٍ منه، استدعيت الطبيبة ياسمين سويدان بشكلٍ طارئ إلى غرفة العناية المركزة للاطلاع على حالة مسن وصل للتو، وكان فاقداً للوعي، فتعاملت معه وطلبت الحصول على صورة تصوير مقطعي. بصعوبة، استطاعت سويدان الحديث إلى "العربي الجديد" نظراً إلى كثرة المراجعين الذين يطلبونها، واستدعائها المتكرر من قبل ممرضين لمعاينة حالات مرضية تصل إلى القسم خلال فترة وجود "العربي الجديد".
تقول سويدان لـ"العربي الجديد": "أهم شيء نفعله عندما نتلقى خبر قدوم شهداء إلينا هو ترتيب العمل داخل القسم حول من يقود قسم العناية ومن يتولى توجيه الحالات عند بوابة المستشفى، حتى نتفادى حدوث فوضى وتجمع المواطنين داخل القسم، لأن ذلك يؤدي إلى عدم السيطرة على حالات الإصابة". تضيف بابتسامة رافقت صوتها: "اليوم الذي لا يأتي إلينا شهداء وإصابات نشعر فيه براحة نفسية لأن تلك المشاهد مؤلمة بالنسبة لنا. لكن لا راحة بشكل عام، فهناك مئات الآلاف من المهجرين جنوبي القطاع، والجميع يأتي إلى مجمع ناصر. وعندما تأتي الإصابات، ننقل المرضى خارج القسم للتعامل مع الإصابات".
تعمل سويدان طبيبةَ طوارئ منذ عام 2020، وهي على رأس عملها منذ بدء العدوان. تعج ذاكرتها بقائمة طويلة من المشاهد. تقول: "عندما يأتي إلينا شهداء ومعهم أقربائهم، تخيم حالة حزن على قلوبنا، وخصوصاً إذا كنا عاجزين على القيام بشيء".
تتذكر مشهد طفلين مصابين وصلا إلى المجمع بعد ارتكاب الاحتلال إحدى مجازره. لا يفارق المشهد ذاكرتها. تقول: "كانت الإصابتان في الرأس وأدت إلى خروج جزء من الدماغ خارجه. في هذه الحالة، لا تستطيع فعل شيء، وتنتظر موتهما بعد دقائق عدة رغم أنهما كانا يتنفسان. قمنا بلفهما بالشاش وتركهما جانباً. كان هذا من أصعب المواقف لأنهما طفلان، وقد يكونان ولديّ". 
وكثيراً ما واجه الأطباء أحداثاً مفاجئة خلال وجود أقارب المصابين والشهداء. وتقول: "قصف جدي وعمي وزوجته وأبناؤه في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2023 أثناء محاولتهم النزوح عن منطقة القرار شرقي المحافظة، وأطلقت عليهم مدفعية الاحتلال قذيفة فاستشهدوا جميعاً باستثناء ثلاثة من أبناء عمي أصيبوا واستطاعوا المشي والابتعاد عن المكان، بينما بقي الشهداء في مكان المجزرة".
قطعت سويدان إجازتها وقدمت إلى المجمع للمشاركة في علاج أبناء عمها المصابين. تقول: "كان القسم يعج بالمصابين وكانت تصل أعداد كبيرة من الشهداء. أحضرت المصابين الثلاثة، وكان أحدهم فاقداً للوعي، إلى قسم العناية المركزة الذي كان ممتلئاً، وأجريت له الاسعافات ونقلت إليه وحدات الدم إلى أن استقرت حالته".

ويعد مجمع ناصر الطبي شاهداً على جريمة نالت من القطاع الصحي، عندما حاصره جيش الاحتلال وقصف بعض الأقسام واقتحمه واعتقل الأطباء وأعدم مهجرين ومرضى، ونبش مقبرة داخل المجمع وسرق جثامين شهداء وأخرج المجمع عن الخدمة. الطبيبة نسمة أبو شباب التي تعمل في قسم الطوارئ عاشت الحصار الذي استمر عشرة أيام قبل دخول جيش الاحتلال المجمع ليلة 15 فبراير/ شباط 2024.
تعود أبو شباب بذاكرتها إلى تلك المحطة المؤلمة، وتقول لـ "العربي الجديد": "خلال أول ثلاثة أيام من الحصار، كانت مسيّرات الاحتلال تجوب سماء المستشفى وتقترب من النوافذ، واعتلى قناصة الاحتلال الأبنية المحيطة. أيّ جسم يتحرك خارج الأقسام يتم قنصه، كذلك انقطع التيار الكهربائي بالكامل عن المستشفى".
أخلى الاحتلال يومها أعداداً من المهجرين والمرضى بعدما نصب حواجز لتفتيشهم وحاصر طواقم طبية ومصابين داخل عدد من المباني في المجمع، وبقيت الطبيبة أبو شباب مع المحاصرين.
وبعد انقطاع التيار الكهربائي، استخدم الأطباء والممرضون مصابيح لتوفير الرؤية لعلاج المرضى، وتوزيع وجبات الطعام، والاستمرار في علاج المصابين والمرضى. تقول: "كنا نعجن الطحين ونجهزه بمساعدة بعض الممرضات والطبيبات لإطعام بقية المحاصرين".
عن تلك التجربة، تقول: "وضعت في ظروف لم أتوقعها. علمتني الصبر وأن المريض يجب أن يحصل على حقه بالرعاية حتى خلال الحصار. كنا نشعر بالخوف من تكرار سيناريوهات ما حدث مع الطواقم الطبية في مجمع الشفاء، رغم أن الاحتلال قيد زملاء أطباء لنا في العراء يوماً كاملاً". لم تثنِ تلك المحطة الصعبة أبو الشباب عن الاستمرار بأداء واجبها المهني. تقول: "أنا هنا لأنني أحب عملي، وهذه أمانة نحملها".

المساهمون