من المدهش والمستغرب ربما، أن نرى اليوم، استخدام جدران من حجارة وأسلاك شائكة، كوسائل لوقف التوسع أو المطامع، أو حتى عرقلة أحلام هاربين من جحيم الحرب نحو بلاد الأمان. وبين الأمثلة الكثيرة الجدار الذي شيّدته الولايات المتحدة على حدودها مع المكسيك، وآخر بنته تركيا على حدودها مع سورية والعراق. كما تتعدد الأمثلة على رفع أوروبا جدران ديمقراطيتها في وجه الطامعين بالعيش في سلام، من دون أن ننسى جدار الفصل العنصري الذي شيّده الاحتلال الإسرائيلي بعدما قضم الأراضي الفلسطينية.
في الماضي، حين كان يسود منطق القوة في غياب القوانين الدولية، اكتظت الأسوار حول مدن وممالك الحضارات القديمة، من الصين وسورها العظيم إلى الهند التي تضم ثاني أعظم سور، مروراً بسور تارودانت الأمازيغي في المغرب، وأسوار القدس وعكا وأريحا ودمشق في بلاد الشام، وصولاً إلى أسوار طروادة وديار بكر، وسور القسطنطينية الرائع في الإمبراطورية العثمانية.
الخوف من الأقوى
وفيما هدمت ضربات الغزاة بعض أسوار هذه الحضارات القديمة، وصدّت أخرى تمدد جيوش ولجمت أطماعها، تتوضح الحقائق حول أسباب وجودها التي أسهب التاريخ في الحديث عنها، وتتمثل في الخوف من الأقوى والحفاظ على الناس مما قد يحصل، باعتبار أن لا شيء يدوم. وبين الأسباب أيضاً، محاولة تكريس واقع حماية الذات بالانعزال والتقوقع خلف الأسوار، في حال صمدت أمام الحصار ومحاولة التجويع. أما القلاع والحصون فتمثل خط الدفاع الثاني، حيث يتمركز الحكام والأغنياء والنبلاء.
ولا تزال البعثات الأثرية تكشف حتى اليوم معالم أسوار وحصون قد يكون فات المؤرخون تدوينها أو لم تتمتع بشهرة كبيرة للحديث عنها في المواد التاريخية، وهو حال أسوار ستون في كرواتيا وسور هادريان في إنكلترا، والسور الذي زفّه فريق الآثار التركي، قبل أيام، والذي يحيط بمدينة برغاما الأثرية الشهيرة بولاية إزمير، والمدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة "يونسكو".
الاكتشاف الصدفة
يقول فريق الآثار التركي إن الصدفة قادته، خلال أعمال الترميم والبحث في وادي سيليوس الذي يحيط ببرغاما إلى جدران حجرية أظهرت متابعات مساراتها أنها جزء من سور للمدينة القديمة يعود إلى ما قبل 2500 عام، بحسب مديرة متحف المدينة، نيلغون أوستورا، التي قالت في تصريحات أدلت بها، إن "طول الجدران المكتشفة يبلغ 4 كيلومترات، ويتراوح ارتفاعها بين 4 و5 أمتار"، مشيرة إلى أنها بنيت في القرن الخامس قبل الميلاد بهدف حماية المدينة من الهجمات.
وربما ليس مفاجئاً اكتشاف سور في مدينة برغاما التي يعود تاريخها إلى 7 آلاف عام، وتزخر بآثار مدهشة من الحضارات الهلنستية والرومانية القديمة، مثل معبد أثينا وهيكل زيوس والساحة الحمراء ومركز "أسكليبيون" الطبي الأثري، فهذه المعالم الحضارية المهمة قد تكون احتاجت حينها إلى سور، باعتباره ضرورة قصوى للبقاء بعيدة عن مطامع الأقوياء.
وارتبط الاكتشاف بعمل مشترك بين المعهد الألماني للأبحاث الأثرية ومهندسين ومعماريين وعلماء آثار وخبراء في تكنولوجيا المعلومات، شمل تحليل خرائط رقمية، وأظهر أدلة على أن "برغاما" أُنشئت على تلة في العصر الهلنستي، قبل أن تتوسع خلال الفترة الرومانية.
وكانت هذه الخرائط قد هدفت إلى محاولة فهم معالم مدينة برغاما في شكل أفضل، وتحديد علاقتها مع الوسط المحيط بها، وأنواع الحجارة والموارد التي استخدمت في بنائها، ومصادرها. وقد أضاف السور المكتشف اليوم سراً آخر باتت ألغازه على عاتق الفريق التركي والباحثين الألمان.
ديار بكر "منذ أن أشرقت الشمس"
ومن السور المكتشف حديثاً في برغاما إلى مدينة ديار بكر جنوبي تركيا، حيث يتواجد أحد أطول وأقوى الأسوار في العالم، والمدرجة أيضاً على قائمة التراث العالمي. ويتضمن هذا السور أسراراً مجهولة كثيرة، ربما أهمها تاريخ بنائه.
وتقول مصادر إن إعادة ترميم وتوسيع سور ديار بكر حصلت في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين عام 349 الميلادي، لكن لم يحسم علمياً تاريخ بنائه، ومن أنشأه، رغم أن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أنه بني قبل 3 آلاف عام من الميلاد، ما يجعل سكان ديار بكر يقولون إن مدينتهم تتواجد "منذ أن أشرقت الشمس على الأرض"، وأنها "مركز العالم ومعبر للحضارات".
ويبلغ طول سور ديار بكر 6000 متر، ويتراوح ارتفاعه بين 10 و12 متراً، بسماكة بين 3 و5 أمتار، ويحتوي على 82 برجاً ويتضمن 4 أبواب، في حين تمتد قلعة ديار بكر الشهيرة على مساحة 72 ألف متر، وتضم 20 برجاً و4 أبواب.
سور طروادة والأساطير
ومن سور ديار بكر جنوبي تركيا إلى أسوار طروادة في الغرب، أحد أقدم الجدران المحيطة بالمدن في العالم، والتي كان يسكن داخلها الأمير تاركاً الفلاحين وأرباب الحرف وصيادي الأسماك يعيشون في الخارج.
وتشكل أسوار طروادة التي هدمها الزلزال مرة والحروب 7 مرات، وصولاً إلى طروادة الثامنة، مادة دسمة للروايات و"إلياذة" الشاعر الإغريقي الأعمى "هوميروس" التي تقول إنها أسوار أرهقت الإغريق الذين حاصروها عشر سنوات، في حرب نشأت بعد خطف الأميرة هيلين، زوجة ملك أسبارطة منيلاوس. لكن حصون المدينة دفعت منيلاوس إلى الحيلة عبر بناء حصان خشبي ضخم "وزنه 3 أطنان وطوله 108 أمتار، وعرض إهداءه للإله مينيرفا في طروادة، لكن أهل طروادة خافوا فطلبوا وضع الحصان على أبواب المدينة، وأعلنوا أنهم سيتكفلون نقله إلى الداخل. وما إن حل الظلام بعد إدخال الحصان الخشبي، حتى خرج منه جنود وفتحوا باب طروادة للإغريق المنتظرين، فاقتحموا المدينة عبر حيلة تجاوزت السور لتنتهي حروب طروادة عام 730 قبل الميلاد.
أسوار القسطنطينية
ومهما تنوعت الأسوار في تركيا وتعمّقت مستويات قدمها، تبقى الشهرة الأوسع لأسوار القسطنطينية في مدينة إسطنبول التي بنيت في بداية القرن الخامس ميلادي بأمرٍ من الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس الثاني. وهي زادت صمود القسطنطينية أكثر من 1500 عام في وجه الغزاة العرب والروس والبلغار، حتى وصلها العثمانيون ومدافعهم العملاقة التي حاصرت المدينة لمدة ستة أسابيع قبل فتحها عام 1453 على يد محمد الفاتح.
وأسوار القسطنطينية سلسلة وليست جداراً، ما يزيد من مشاعر الدهشة لدى رؤيتها، وشهرتها التي تستقطب السياح، وتمتد على مسافة 23 كيلومتراً في البر والبحر، بينها 8 كيلومترات من الأسوار البرية، و6 كيلومترات تقع على جهة المدينة التي تطل على خليج القرن الذهبي، و9 كيلومترات تحيط بالمدينة من جهة بحر مرمرة، على شكل مثلث هو خريطة إسطنبول القديمة، أي من منطقة يديكولي على بحر مرمرة إلى منطقة أيوان سراي التي تطل على خليج القرن الذهبي.
ويضم سور القسطنطينية الداخلي والخارجي والبري والبحري خنادق وسبعة أبراج تمتد على الشريط الساحلي وصمدت أمام الفاتحين حتى اخترقها محمد الفاتح عبر روايتين، تقول أولهما إنه استخدم المدافع لكسر الجدران، والثانية إنه جرّ السفن براً كي تدخل القسطنطينية من خليج البوسفور الذي كانت تسد سلاسل حديدية بين شاطئيه على البحر الأسود ومرمرة، فتفتح أبواب "مولانا، وتوب قابي، وأدرنة قابي، والباب الذهبي، وباب بالاط، وأون قاباني قابي". ومنذ ذلك الحين تحوّلت هذه الأسوار إلى معلم جذب كبير للسياح.