لعلّ كثيرين سمعوا عن الكارثة التي أصابت أسماك الكارب (Cyprinus Carpio) في لبنان، فأدّت إلى نفوق آلاف الأطنان منها في بحيرة القرعون في البقاع الغربي (شرق) الواقع على خط رئيسي لهجرة الطيور. أُعلن عن ذلك في السابع والعشرين من إبريل/نيسان الماضي، علماً أنّ الأمر كان قد حصل قبل ذلك في العامَين 2017 و2018، إنّما الأعداد كانت أقلّ. ويُعَدّ سمك الكارب من الأنواع المقاومة للتلوّث ويعيش في المياه العذبة ويمضي الشتاء في القاع الطيني. فما هو سرّ نفوق هذه الأسماك بخلاف غيرها من الأنواع؟ وهل الطيور التي تعيش على الأسماك كمالك الحزين والبلشون والنورس والخرشنة تنفق إذا تناولتها أو تمرض أو أنّها لا تتأثر البتة؟
يعود سبب نفوق تلك الأسماك، بحسب ما تفيد جهتان، إحداهما حكومية والأخرى غير حكومية، إلى انتشار فيروس يقضي على هذا النوع فقط، فيما أضافتا احتمال إصابتها ببكتيريا. أمّا ما عرفناه فهو أنّ الأسماك التي جرى تشريحها في الموقع، كانت مصابة بتقرّحات داخلية ونزيف دموي، وأنّ نفوقها ليس محصوراً ببحيرة القرعون، بل يبدأ من مسافة 18 كيلومتراً تسبق بلوغ نهر الليطاني في اتجار البحيرة التي يصب فيها. وثمّة رأي آخر لخبير أكاديمي وباحث في علم الطحالب والتلوّث في المياه العذبة، وهو أوّل من أشار في عام 2008 إلى وجود طحالب سيانوبكتريا (الطحالب الزرقاء) في مياه القرعون والتي تنمو بسرعة في أوقات الحرّ، وتفرز سموماً تضرب الجهاز العصبي والأعضاء الداخلية للأسماك وتتسبّب بالتالي في نفوقها.
في حالة الإصابة بالفيروس المشار إليه، فإنّ الأسماك النافقة قد تكون مضرّة أو غير مضرّة للطيور، أي أنّ الفيروس قد لا يؤثّر في الطيور، كونه لم يؤثّر في أسماك أخرى غير الكارب، بحسب عدد من المعنيين. يُذكر أنّ أربعة أنواع من الأسماك تعيش في بحيرة القرعون إلى جانب الكارب، ولم تتأثّر بالفيروس. أمّا الأسماك التي يُصاب جهازها العصبي وأعضاؤها الداخلية من جرّاء سموم سيانوبكتيريا، فإنّها بالتأكيد سوف تؤثّر على الطيور التي قد يتضرّر دماغها فتطير بشكل مضطرب وغريب. ومثل هذا الطيران أوحى لألفرد هيتشكوك (المخرج والمنتج وكاتب السيناريو البريطاني) باستخدام طيور النورس في فيلم التشويق والرعب الأميركي الطبيعي الشهير "ذي بيردز" (الطيور) الذي أنتجه وأخرجه في عام 1963.
للأسف الشديد، بسبب أزمة كورونا في لبنان والوضع الاقتصادي فيه الذي أثّر على استيراد مواد تُستخدم في التحاليل المخبرية، فإنّ عيّنات الأسماك النافقة والمياه المأخوذة من مياه نهر الليطاني وبحيرة القرعون لم تجد طريقها إلى المختبرات لتخبرنا عمّا نحن فيه، مع أطنان من الأسماك النافقة على ضفاف البحيرة الأكبر في البلاد. بالتالي، اطلعنا على دراسات عالمية حول الأسباب التي تقتل السمك، فوجدنا أنّ ظاهرة الأسماك النافقة تحدث في أميركا الشمالية بمعدّل مرّة كلّ يومَين وتتراوح أعداد الأسماك المتأثرة في بحيرات عدّة وحتى في المياه البحرية الضحلة ما بين عشرات وملايين. ففي ولاية فلوريدا (في الولايات المتحدة الأميركية)، أجهز المدّ الأحمر على مليون و225 ألف كيلوغرام من الأسماك، فيما أجهزت الطحالب الزرقاء وغيرها في البحيرات على أعداد كبيرة من الأسماك، منها 7.6 ملايين سمكة كانت قد نفقت في بحيرة سالتون في ولاية كاليفورنيا الأميركية في عام 1999.
واللافت للنظر جاء على لسان أحد خبراء الطيور الذي وصف حالة في أميركا الشمالية مماثلة في جزء منها لما حصل في لبنان. فقال إنّه عند وصول رياح حارة تحمل معها مغذيات في نهاية الشتاء وبداية الربيع، تحدث طفرة للطحالب التي لا تكون سامة بالضرورة، ومن ثم تموت تلك الطحالب، وفي أثناء تحللها تستهلك كميات ضخمة من الأوكسجين الذائب في الماء. وأوّل ما يتأثر بنقص الأوكسجين هي أنواع السمك سريعة النموّ وسريعة التكاثر كأسماك الكارب وأسماك التيلابيا المنهكة، فتنفق ويظنّ بعض الناس أنّ ما يفتك بها هو مرض انتقائي يستهدف الكارب أو التيلابيا فقط. وبينما يعجز المهتمون في لبنان عن القيام بتحاليل في المختبرات، أكّد التشريح الميداني وجود تقرّحات داخلية ونزيف عند الأسماك النافقة. هل يسبّب نقص الأوكسجين تقرّحات ونزيفا داخليا، أو أنّ بكتيريا الطحالب الزرقاء تؤدّي إلى ذلك؟ مهما كان الأمر، علينا مراقبة الطيور التي تتغذّى على الأسماك مثل مالك الحزين الرمادي والبلشون الأبيض وبعض أنواع النوارس، فإذا لم ينفق منها أيّ طائر، فهذا يعني أنّ الأمر يتعلق بنقص الأوكسجين أو بفيروس خاص بسمك الكارب. أمّا إذا نفقت طيور منها، فالأمر يتعلق بسموم الطحالب. كذلك فإنّ مراقبة الكلاب والماعز التي تشرب من البحيرة تستطيع الدلالة على وجود السمّ من عدمه، لأنّ الطيور تختزن الأسماك المصابة بحوصلتها، فإذا شعرت بأنّها ليست على ما يرام، فإنّها تتقيأ الأسماك لتعود وتتعافى.
*متخصص في علم الطيور البرية