قد يشهد العام الحالي أرقاماً مرتفعة جديدة في حالات الانتحار في العراق، استناداً إلى رصد الدوائر الأمنية 700 واقعة في الفترة الممتدة من يناير/ كانون الثاني الماضي إلى منتصف أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شملت نصفها نساء وفتيات قضين بطرق مختلفة داخل منازلهن. ومنذ مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، تحدثت تقارير عن 9 حالات انتحار في بغداد وحدها، غالبيتها في مناطق شعبية فقيرة.
وعادة لا تصدر السلطات أرقاماً سنوية رسمية عن حالات الانتحار، لكن المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء خالد المحنا يكشف لـ"العربي الجديد" أن الوزارة ستقدم إحصاءً عنها هذا العام، بالتزامن مع نشرها دراسة أجرتها عن الظاهرة وأسبابها. ويقول: "ستعلن الأرقام الرسمية لنسب الانتحار قريباً ضمن دراسة تتناول الإحصاءات والأسباب، وتنتظر مصادقة وزير الداخلية عليها".
وتحدث مسؤولان أمنيان في بغداد لـ"العربي الجديد" عن أرقام الوفيات المرتبطة بالانتحار. وقال أحدهما إنها "تتجاوز 700 في مقابل 640 العام الماضي، و520 عام 2019، مشيراً إلى أن "معدلات الانتحار المتصاعدة ترتبط في شكل رئيسي بالفقر المنتشر في مدن ومناطق واسعة، والشعور بانعدام الأمل في تغيير الوضع العام السائد". ويوضح أن "العاصمة بغداد ومدينة نينوى ومدن أخرى في الجنوب والوسط تسجل حالات انتحار مرتفعة، وأن ألف محاولة انتحار على الأقل فشلت أو جرى إحباطها من الأهل أو أجهزة الأمن أو الأطباء".
ويوضح المسؤول الأمني الثاني لـ"العربي الجديد" أن "الرقم المتوفر قد يكون أكبر، لان حالات انتحار كثيرة سجلها الأهل باعتبارها نتجت من وفاة طبيعية، من دون إحضار الضحايا إلى المستشفى لإخضاعهم للفحص اللازم. وهذه الحالات كثيرة في القرى ومناطق العشائر".
ويصف هذا المسؤول الأرقام المسجلة بأنها "غير مسبوقة في العراق، وترتبط بعوامل عدة في مقدمها الفقر والعوز والظلم الذي تتعرض له الفتيات أو الزوجات، وانعدام أمل الشباب في تغيّر الحال".
وعموماً، يشكك مراقبون في دقة أية أرقام تصدر عن الحكومة، ولا يستبعدون أن تكون حالات الانتحار ضعف المعلن لأسباب عدة أولها ضعف الإجراءات الحكومية لتوثيق الحوادث والتي تشمل الوزارات ومراكز الشرطة ودوائر الصحة، وطبيعة المجتمع الذي يتكتم على الحالات ويتعامل معها انطلاقاً من قيود العادات والتقاليد العشائرية، على أنها فضائح خصوصاً إذا كانت الضحية امرأة. ويعتبر هؤلاء المراقبون أن مؤسسات الدولة عاجزة عن اتخاذ تدابير تخفف نسب الانتحار التي باتت أكثر فتكاً بالمجتمع.
تقول الناشطة في مجال حقوق الإنسان، هديل الحسيني، لـ"العربي الجديد": "تتعدد أشكال حالات الانتحار، لكن الحصة الكبرى للنساء من خلال الحرق أو الشنق، بينما يتعمد الذكور الانتحار في الأماكن العامة، واستخدام الأسلحة النارية في ظل فوضى انتشار السلاح في مختلف المناطق والبيئات، والغياب الواضح لأجهزة الأمن".
ورغم الموازنات المالية الضخمة المرصودة لوزارة الصحة، لا تتوفر في العراق أي مراكز للصحة النفسية أو لتأهيل الأشخاص الذين ارتكبوا محاولات انتحار فاشلة أو ظهرت مؤشرات لميلهم إلى الانتحار.
ويؤكد مراقبون أن معدلات الانتحار تراجعت خلال فترة تنظيم التظاهرات الشعبية التي بدأت في الربع الأخير من عام 2019 واستمرت 14 شهراً، بسبب شعور الشبان بوجود أمل في تغيير الواقع إلى الأفضل.
من جهته، ينتقد الخبير في الشأن الاجتماعي العراقي، علي الجنابي، عدم تخصيص مؤسسات الإعلام المحلية مساحة مناسبة لتثقيف الأهل وتحذيرهم وتوعيتهم من الظاهرة. ويقول لـ"العربي الجديد": "غياب الوعي الفكري والإعلامي الهادف لدى كثير من مالكي محطات التلفزيون يتسبب في هذا التقصير، والمجتمع يحتاج إلى برامج متلفزة هادفة توضح للرأي العام أهمية الحياة والتعايش من خلال استضافة رجال متخصصين في الصحة النفسية وعلماء دين يوضحون أبعاد الانتحار وخطورته. واستمرار الغياب الإعلامي الهادف يعني أن معدلات الانتحار في العراق ستزداد".
ويتحدث نائب رئيس المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، علي ميزر الشمري، لـ"العربي الجديد"، عن أن "أسباب الانتحار كثيرة في المجتمع العراقي، لكن أهمها الفقر وغياب فرص العمل، والتفكك الأسري الذي باتت مظاهره أكثر وضوحاً في الفترة الأخيرة".
يضيف: "ساهمت آفة تعاطي الشباب والكبار المخدرات، وغياب الرقابة الحكومية على مواقع التواصل الاجتماعي في شكل مخيف في تثقيف الشباب والبنات على قضية الانتحار والخلاص من البؤس وغيرها من المسارات الخطيرة".