اعتبر الليبيون أن حملة الإعانات الواسعة مع منكوبي الفيضانات التي ضربت مدينة درنة في 10 سبتمبر/ أيلول الماضي، ومحت وسطها من الخريطة، وقتلت الآلاف وغيّبت مثلهم، أظهرت اللحمة الوطنية الحقيقية المطلوبة في مواجهة الأزمات الكبيرة.
وترافق ذلك مع إرسال دول عدة مساعدات عبر جسور جوية وبرية وبحرية، أبرزها مصر وتركيا وقطر والإمارات، كما وصلت مساعدات إغاثية وفرق إنقاذ من تونس والجزائر والسعودية والأردن وإسبانيا، ومن بنغلادش ورومانيا وألمانيا والكويت وسلطنة عمان، كما شاركت بعض الجاليات الموجودة في ليبيا في حملات جمع المساعدات وإرسالها إلى درنة، بينها الجاليتان المغربية والتشادية.
لكن بعدما مضى أكثر من ثلاثاة أسابيع على الكارثة ظهرت ملفات أقلقت الأشخاص الذين لا يزالون يتفاعلون بقوة مع المدينة المنكوبة.
وبين أهم هذه الملفات شبهات فساد ارتبطت بالإعانات المقدمة، خاصة تلك الطبية من أدوية ومعدات وأجهزة باعتبار أن الحاجة لها كبيرة وملحة.
ويخبر سكان في درنة "العربي الجديد" أنهم يضطرون إلى الذهاب الى مناطق مجاورة بينها مرتوبة وأم حفين وأم الرزم التي تبعد مسافات تتراوح بين 35 و50 كيلومتراً شرقي درنة، أو القبة التي تقع على مسافة 50 كيلومتراً من غربي درنة لشراء أدوية ضرورية لمرضاهم.
وخلال الأيام الماضية دأب وزير الصحة في حكومة مجلس النواب، عثمان عبد الجليل، على تأكيد توفر كل الإمدادات الطبية والأدوية في المدينة بفعل استمرار وصول كميات كبيرة من إغاثات الدواء من داخل ليبيا وخارجها.
وخلال مؤتمراته الصحافية اليومية، أعلن عبد الجليل افتتاح مستشفيين ميدانيين في المدينة، بمساهمة من تركيا وفرنسا، لتقديم الخدمات الطبية اللازمة لسكان درنة، وهو ما يؤكده وليد الأخطل الذي تطوّع في فرق الإنقاذ خلال الأسبوع الأول من الكارثة، لـ"العربي الجديد"، موضحاً أن الإقبال كان كبيراً على المستشفيين، ما عالج مشاكل العجز الصحي الذي تعاني منه المدينة.
لكن الأخطل ينقل عن أطباء ومسعفين قولهم إنه "يوجد عجز حالياً في توفير أدوية الأمراض المزمنة، مثل الأورام والفشل الكلوي، وبعضها منعدم تماماً، ويقول: "نقلت فرق الإسعاف في الأيام الأولى للكارثة مرضى الفشل الكلوي الى مناطق مجاورة كي يجروا جلسات الغسيل، كما وفرت كميات من أدوية الأورام والقلب وأمراض الدم، في وقت كان المستشفى الميداني الحكومي الوحيد في المدينة يرد على طلبات المرضى بأنها نفدت".
يتابع نقلاً عن المسعفين والأطباء في المدينة أن "مخازن الأدوية يشرف عليها رجال أمن، ويديرها أشخاص من خارج المدين، وهناك شكوك في أن غياب الأدوية متعمّد".
وفي وقت يحاول نشطاء كشف أسباب فقدان الأدوية، تناقلت منصات التواصل الاجتماعي مكالمة هاتفية مسرّبة أجراها مدير إدارة التفتيش في وزارة الصحة في الحكومة المكلفة من مجلس النواب، نوري الفسي، مع أحد الناشطين، وتضمنت نفي الفسي وصول أي حاوية أدوية ومستلزمات طبية من أصل 99 أعلنت الجهات الصحية الرسمية في غرب البلاد أنها أرسلتها إلى درنة.
ويوضح حافظ القاضي، النازح من مدينة درنة، أن "خلفيات مناطقية وقبلية وراء فقدان الأدوية، باعتبار أن غالبية المشرفين على نقل الإمدادات من المطارات، سواء في بنغازي أو الأبرق، هم من أبناء مناطق أخرى. وبسبب عدم وجود نظام محكم وإدارة واحدة للتوزيع يصل قسم كبير من مجموعة الإمدادات إلى مناطق هؤلاء المشرفين، وتبقى حصة قليلة لدرنة المنكوبة".
لكن المشاكل لا تتعلق فقط بشحّ الإمدادات الطبية، بل بوجود فساد في التوريد. ففي الأيام الماضية، أوقف جهاز الأمن الداخلي في العاصمة طرابلس مدير مكتب رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط التي شاركت في جهود إغاثة متضرري درنة، استناداً إلى معلومات عن إصداره تكليفات مباشرة لشركتين خاصتين لتوريد أدوية ومعدات طبية مخصصة لمتضرر درنة، قبل أن يتبين أنهما وفرا أدوية منتهية الصلاحية.
وأعقب ذلك اعتقال المستشارين المالي والقانوني في مكتب رئيس مجلس إدارة المؤسسة الوطنية للنفط في القضية ذاتها.
ولم يكشف مكتب النائب العام كل تفاصيل القضية، وهو ما طالب به الناشط المدني المشارك في حملات التطوّع في درنة، علي المجبري، "من أجل ردع استغلال الحالات الإنسانية لسكان درنة والاتجار بها".
ويقول المجبري لـ"العربي الجديد": "تفيد المعلومات المتوفرة حتى الآن بأن السلطات تواصل التحقيقات وجمع الأدلة، لكن المهم إعلان الوقائع، ولو في تفاصيلها العامة".
وعموماً واكب فساد مالي وإداري ملف الصحة منذ انهيار النظام الليبي عام 2011، خاصة على صعيد معالجة الجرحى وأسر الشهداء، وأيضاً ملف العلاج في الخارج، كما شمل ارتكاب مخالفات في توريد مستلزمات المستشفيات والمجمعات والمستوصفات الصحية. وأوقف مكتب النائب العام متهمين كثيرين في هذه القضايا.
والثلاثاء الماضي، ناقشت لجنة إدارة الأزمة والطوارئ المكلفة متابعة كارثة درنة في حكومة الوحدة الوطنية، الإجراءات المتبادلة بين وزارة الصحة ومركز مراقبة الأغذية والأدوية في شأن فرز ومتابعة الإعانات الطبية المقدمة من الجهات الدولية والمحلية للمناطق المتضررة من الفيضانات والسيول شرقي ليبيا.
وأورد تقرير لجنة إدارة الأزمة أن "مركز الرقابة على الأغذية والأدوية عاين كل الشحنات الواردة عبر المنافذ البرية والجوية، وأخذ عينات منها".
ويربط المجبري انعقاد هذا الاجتماع بمحاولة اتخاذ إجراءات احترازية قد يجري توريدها عبر المنافذ بعد كشف قضية الفساد في توريد أدوية منتهية الصلاحية.
وقبل يومين أصدر وكيل وزارة الصحة لشؤون المستشفيات، سعد الدين عبد الوكيل، تعليمات إلى جهاز الإمداد الطبي في بنغازي لتشكيل فريق مكلف فرز الإعانات الطبية والتحقق منها بالتنسيق مع مركز الرقابة على الأغذية والأدوية.
وطالب الوكيل الجهات التي تقدم إعانات طبية إلى المناطق المنكوبة في شرقي ليبيا بنقلها إلى مخازن جهاز الإمداد الطبي في مدينتي بنغازي والبيضاء، وهو ما يعتبره المجبري "محاولة للحدّ من السرقات، وضمان وصول الأدوية إلى درنة، وعدم تسليمها إلى أيدٍ أخرى".