هناك سحر فريد في ذكريات بيوت الجدات حيث يبدو الوقت كأنه توقف. كل زاوية فيها مليئة بالحب والدفء والذكريات والأحلام.. أحلامهن الشخصية وبينها القراءة والكتابة. الجدات هن عطر المكان، يُشبهن العيد وكل الأماكن التي لها رائحة الحنين. ومن الأحلام التي لم تفارق نوف الحاج، وهي أم لابنة واحدة وجدة لحفيدين وُلدت عام 1944 وعاشت طوال حياتها في قرية أنصار (جنوب لبنان)، أن تتعلم القراءة والكتابة، وهو ما حوّلته إلى حقيقة.
تخبر نوف "العربي الجديد" أنها تزوجت في سن الـ21، وأمضت حياتها مع زوجها في الزراعة وكانت معيشتها جيدة، فأسعدها ما حققته مع عائلتها. تقول: "وُلدت في منزل يضم ست فتيات، وماتت أمي في عمر مبكر، فأصبحت مسؤولة عن أخوتي الأصغر سناً، لكنني لم أدخل المدرسة بسبب الظروف ولم أحصل بالتالي على علم. ربيت أخوتي الذين دخلوا المدارس بخلاف ما حصل لي، وعندما سألت أبي الذي كان متعلماً عن السبب أخبرني أنها ظروف الحياة فقط، ثم تزوجت وأخذتني الحياة الى وضع مختلف، لكنني لم أنسَ حلمي بتعلم القراءة والكتابة".
تتابع: "بدأت أحقق هذا الحلم عندما أخبرتني قريبة لي أن دورة لمحو أمية ستنظم في القرية، وشجعتني على دخولها للتعلم ثلاث مرات أسبوعياً. لم يكن الأمر سهلاً في البداية، فمسؤولية العائلة والمنزل كانت كبيرة، وكنت في الستين، ما دفعني إلى دخول مكتب المشرفة للاعتذار عن عدم التسجيل بحجة أنني أعالج عيني ولست بخير، لكنها لم توافق وحثتني على دخول الصف، وقالت لي لن نتعبك أو نجبرك على الدرس بل حاولي ما تستطيعين. كان التردد والخوف من التجربة يمنعانني من دخول الصف، لكن حجتي لم تنفع للتهرب فدخلت الصف للمرة الأولى، وراودني شعور لا يوصف".
تضيف: "لم يكن الأمر مقبولاً في محيطي، إذ واجهت بعض التهكم والاعتراض، فكيف لسيدة في سن متقدمة أن تبدأ في تعلم القراءة والكتابة، وسخرت مني الجارات بالقول: "لن نزور نوف اليوم لأنها تدرس، لكنني كنت مقتنعة بأن ما أفعله يفيدني، وكنت أعطي أولوية لدراستي وبيتي، وهذا كان جوابي على التعليقات، علماً أن جارة واحدة دعتني وعرضت عليّ المساعدة في حال عجزت عن حل درس ما".
تضيف: "طمحتُ وقتها إلى أن أجيد قراءة القرآن الكريم والدعوات الخاصة بالزيارات الدينية، وأن أعرف أسماء القرى والمحلات. كنت أعلم أنه لم يعد لي فرصة للعمل في هذه السن، لكن المعرفة كانت الأساس، وأصبحت القراءة تؤنس وحدتي. نجحت في تخطي ثلاث سنوات في الدراسة، وكانت تجربة جميلة أسعدتني كثيراً، وختمت القرآن عدة مرات، وذهبت للحج والعمرة في مكة".
بدورها، تقول عائشة سيدة البالغة 65 من العمر وتقيم في عكار (شمال لبنان)، وهي أم وجدة، لـ"العربي الجديد": "انتقلت خلال طفولتي من طرابلس إلى القرية في عكار، حيث لم توجد مدارس حينها فلم أستطع مع ثلاثة من أخوتي التعلم، ولم يرضَ أبي بفكرة أن تتعلم البنات، كما منع الفقر هذا الأمر. كان الأهل يخافون تعليم البنات، إذ يعتقدون بأنهن سيكتبن رسائل حب، وأذكر في بداية كل عام أنني كنت أصرّ يومياً على أبي كي يدخلني المدرسة. حلمت أن أتعلم، لكن أبي كان يتحجج بالظروف وعدم قدرته على دفع المصاريف، وكان يحزنني أن يدخل الأطفال إلى المدرسة وأبقى أنا في المنزل، لكن عندما كبرت قليلاً أجبرت أبي أن يعلم أخوتي الأصغر سناً".
أما عن تحقيق حلمها فتقول عائشة: "بدأت مشوار التعلم قبل خمس سنوات حين علمت صدفة بتنظيم دورة لمحو الأمية في مركز الحداثة بعكار. شعرت في البداية بقهر من حرماني التعلم في طفولتي، وأنني أتعلم الأحرف في سن متقدمة، لكن المعلمة تعاونت معي، وتعلمت الأحرف ثم قراءة الجمل الطويلة. وكلما تقدمت في المعرفة كانت سعادتي لا توصف واستطعت أن أقرأ القرآن الكريم الذي اكتشفت جماله ما أفرحني كثيراً. لم أتعلم الكتابة بل النسخ فقط، وأنا لا أستطيع الكتابة بمفردي، لكن المعرفة التي حصلت عليها كانت مهمة جداً، وعلى الأقل بت أعرف المكان الذي أصل إليه. فتح العلم بصري".
تختم: "أتمنى أن يكمل كل الأهالي تعليم أولادهم، والعلم جنة للنساء ولا شيء يضاهيه، وأرى أنه أهم من تعليم الرجال، فمهما حصل في حياة المرأة تستطيع أن تتدبر أمورها بنفسها".
ومن حكايات الجدات أيضاً قصة الحاجة سميرة مرضى (70 عاماً) المتحدرة من بلدة الشواغير في بعلبك، والتي تقول لـ"العربي الجديد: "كان حلمي أن أكتب وأقرأ، ولو أنني تعلمت في صغري لما تزوجت باكراً، لكن عادات المجتمع حينها كانت أقوى من أحلامي. تزوجت في سن الـ14 وعملت في الزراعة والخياطة وأنجبت 11 ولداً. لم تكن الحياة سهلة فالزواج وتربية الأطفال أخذا الجزء الأكبر من حياتي. لم يكن تعليم الإناث متاحاً في القرية، إذ كانت المدرسة الحكومية مخصصة للفتيان الذين يعلمهم مدرّس. ورغم أن جارتنا أصرت على أبي أن أتعلم في البيت رفض ذلك وفضل تعليمي الخياطة في سن العاشرة، وبرر قراره بأنه من المعيب وضع الذكور والإناث في مدرسة واحدة".
تكمل: "انشغلت بعد زواجي بالبيت وتربية الأطفال، ولم أفاتح زوجي يوماً عن رغبتي في التعلم. كانت حسرة في قلبي أنني لا أستطيع قراءة أبسط الدعوات التي تصلنا إلى المنزل، أو مساعدة أطفالي في التعليم. علمت أولادي جميعاً حتى الجامعة وتزوج معظمهم. عام 2010 أوجدت بلدية القرية فرصة لتعلم كبار في السن فكانت الخطوة الأولى لتحقيق الحلم. كنا 12 طالباً وطالبة في الصف، وشرحت لنا المعلمة أهمية التعلم والمعرفة. وددت أن أتعلّم رغم أنني تعرضت لانتقادات، وأذكر مرة أنني كنت أشعر بحرج فخبأت الدفتر ولم أخبر أحداً سوى زوجي الذي شجعني على إكمال الدورة. تعلمت لمدة ثلاثة أشهر ثم درست بمفردي، كانت سعادتي لا توصف، وأذكر جيداً أنه حين بدأت أدرس كنت أجمع أحفادي وأقرأ لهم ما تعلمته. قرأت القرآن الكريم والأدعية. ولو عاد بي الزمن لتغيّرت حياتي وبقيت أتعلم حتى آخر يوم منها، ولربما كنت أعلّم الآخرين، فهذا ما كنت أحلم به".
تؤكد سارة علي، وهي مسؤولة مركز التنمية المجتمعية التابع لجمعية الحداثة، في حديثها لـ"العربي الجديد" أن "استقطاب كبار السن لتعلم القراءة والكتابة كان التحدي الأساس بهدف مساعدتهم في قراءة العناوين ومعرفة الأماكن التي يوجدون فيها. ورغبة نساء في تعلم قراءة القرآن الكريم في المنزل ومعرفة أسماء الأدوية التي يتناولنها بمفردهن، ما شجعهن على التسجيل في دورات محو الأمية التي تراوحت مدتها بين ثلاثة وستة أشهر". تتابع: "استطعنا تعليم عدد من السيدات الكبيرات في السن، ولمسنا أهمية التحدي الذي أطلقناه بعد سنوات من تنفيذ الدورات، ما جعلنا نعتبرها قصص نجاح، خصوصاً أنها خلقت نوعاً من الألفة والصداقة بين المشاركين مع مرور الوقت، والذين استفادوا أيضاً من نقل التجارب والخبرات بين بعضهم البعض. أيضاً علمنا المشاركين مهارات حياتية، ووفرنا توعية مجتمعية ودعماً لهم. كان المركز مكاناً مناسباً للترفيه والاندماج في المجتمع في نفس الوقت".