أحباس تونس... منظومة أوقاف أسقطها التناحر

09 نوفمبر 2020
نفقات جامع الزيتونة كانت تأتي من أموال الوقف (أنيس ملي/ فرانس برس)
+ الخط -

تحوّلت الأحباس في تونس إلى مصدر للخلاف على أسس مجتمعية وأيديولوجية، بعدما كان نظام الوقف هذا قبل الاستقلال أداة للتضامن والتكافل، وهكذا بقيت عشرات الممتلكات مهملة من دون استغلال

الحبس أو الوقف هو أن يهب شخص أو مجموعة أشخاص ملكية ما لفائدة الصالح العام، ويكون ذلك بصفة مؤقتة أو دائمة، على أن يستفاد مما تأتي به هذه الملكية من أموال أو فوائد أخرى من دون التفريط في الملكية نفسها. وهكذا، كانت الأوقاف في تونس تمثل حلاً مجتمعياً للفقراء والمحتاجين، لكنّ عدداً من القائمين عليها انحرفوا مع الزمن في استغلال مكاسبها لمصالحهم الشخصية.
يستوقف أشهر أحباس تونس، وهو "مستشفى العزيزة عثمانة"، زائري القصر الحكومي في القصبة ومحيطه، سواء المحليين، أو الزعماء الأجانب وكبار المسؤولين. يعرف التونسيون جميعاً قصة الأميرة المناضلة العزيزة عثمانة، التي كانت مولعة بعمل الخير والإحسان، والتي وقّفت جزءاً من ممتلكاتها للتكفل بمصاريف مستشفى العاصمة الشهير الذي يقبع في المبنى العظيم المجاور لمقر الحكومة، والمقابل لوزارة الدفاع وجامع الموحدين بالقصبة، منذ عام 1662، إذ شيد لمعالجة الفقراء. كذلك، يعرف المؤرخون أنّ نفقات جامع الزيتونة الأعظم الذي يقبع في كبد المدينة العتيقة كانت تُدفع من أحباس محال وأملاك وقفها أصحابها للتكفل بحاجيات هذا المعلم الديني والتاريخي.

دول عدة حول العالم شهدت على نجاحات في تجربة الأوقاف، إذ تدعم سلطات هذه الدول إنشاء مؤسسات وقفية لتمويل ورعاية دور العبادة والمؤسسات الإسلامية، على غرار "جمعية الأحباس والأماكن المقدسة" التي تأسست عام 1917 في فرنسا، وهي ترعى مسجد باريس الكبير من خلال تمويلات تتأتى من عوائد مطاعم فاخرة وفنادق، كما ترعى مؤسسة "الوقف الأوروبي" الأوقاف الإسلامية في أوروبا. ويسجل التاريخ الحديث البدء بتجربة إنشاء "صناديق وقفية" عام 2008، من خلال ما يعرف بقانون كريستين لاغارد، رئيسة صندوق النقد الدولي، التي أشرفت على وضع قانون لتيسير الهبات والمساعدات. كذلك، تعتمد دولة الفاتيكان منظومة الأوقاف الكاثوليكية حول العالم من خلال "مؤسسة الفاتيكان". وتشجع دول  عدة إنشاء مؤسسات خيرية ومجتمعية وقفية تحمل عادة أسماء متبرعين من الأثرياء والمشاهير الذين يخصصون تمويلات وتبرعات للتكفل، إما بمتدربين أو فقراء على غرار "مؤسسة بيل وميليندا غيتس".
وما زالت الدولة التونسية تسعى لتسوية وحلحلة أحباس عدة لحلّ مشكلة أراضٍ مملوكة للدولة، وآخرها ما يعرف بأراضي "السيالين والأحباس" التي تعطل تسوية أوضاعها. وأحالت وزارة أملاك الدولة والشؤون العقارية مشروع أمر تسوية الوضع العقاري للأراضي المعروفة بأراضي السيالين، بمحافظة صفاقس، والأحباس العامة على غرار حبس عزيزة عثمانة بمحافظة المهدية وغيرها من المحافظات، على رئاسة الحكومة لعرضه على مجلس الوزراء للمصادقة عليه والنشر. وهو ما سيؤدي إلى "تمليك آلاف المستغلين لهذه الأراضي الممتدة في مجملها على زهاء 190 ألف هكتار، ممن ينتظرون هذه التسوية منذ صدور القانون عدد 21 لسنة 1995 المتعلق بالأراضي الدولية الفلاحية، وسيتمكنون من الاستفادة منها على أكمل وجه لتثمينها وتحسين إنتاجها عبر النفاذ إلى التمويلات البنكية، كما يهدف هذا المشروع إلى تثمين العقارات المعنية والمساهمة بها في الدورة الاقتصادية، خصوصاً دفع مسيرة التنمية بالجهات الداخلية".

الصورة

في هذا الإطار، يعتبر وزير المالية الأسبق، والأستاذ الجامعي سليم بسباس، في حديث إلى "العربي الجديد" أنّ تجميد العقارات وأراضي الأحباس وعدم استغلالها، يمثل ضرراً مجتمعياً واقتصادياً كبيراً لتونس، داعياً إلى تحرير الأحباس وتسوية أوضاعها. يقول بسباس إنّ من بين الحلول إحياء منظومة الأوقاف في تونس من خلال قانون ينظم هذه الممتلكات والمكاسب والعقارات التي بقيت معطلة بسبب مشاكل قانونية. ويلفت إلى أنّ المطلوب عدم الخوف من نظام الأوقاف لأسباب دينية وإيديولوجية، لأنّ منظومة الأوقاف ستعود بالمنفعة على جميع مكونات المجتمع التونسي نظراً لبعدها التكافلي والمجتمعي، مشدداً على أنّ المجتمع التونسي، على مرّ العصور، يتعايش بفضل التكافل والتضامن، وهما من صميم أهداف منظومة الأوقاف. ويلفت إلى أنّ إلغاء نظام الأحباس الفردية والمشتركة وحلّها ثم دمجها الذي جرى وفق القانون، منذ سنة 1957، كان قراراً سياسياً حينها، لكنّ العديد من العقارات والأراضي والممتلكات ما زالت إلى اليوم غير مستغلة، مشيراً إلى أنّ تسوية أوضاعها واستغلالها يعود إلى وزارة أملاك الدولة التي يجب أن تضاعف الجهود في هذا المجال. ويقول الوزير السابق إنّه يتفهم التخوّف من الانحرافات المجتمعية التي وقعت سابقاً في "عصور الانحطاط" حين كان الذكر مهيمناً مهمشاً المرأة والأشقاء الصغار من خلال استغلال هذه المنظومة للاستحواذ على الممتلكات. لكن، وجب التمييز بين منظومة الأحباس التي جرى إلغاؤها، وبإلغائها تسببت في بعض المشاكل العقارية، والمنظومة الجديدة التي ندعو إلى تبنيها وهي منظومة  مختلفة، إذ وجب تطمين الرأي العام أنّ منظومة الأوقاف المطروحة هي منظومة متماسكة تحيي البعد الاجتماعي للدين، ولديها دور مهم في تعزيز النهج التنموي الاقتصادي الاجتماعي، فصحيح أنّ هناك بعداً دينياً في هذه المنظومة لكنّه قائم على البعد التكافلي والتضامني، بحسب بسباس.

يضيف بسباس أنّ توجه البلاد اليوم يقوم على اعتبار أنّ البعد الاجتماعي ليس حكراً على الدولة بل يجب الانفتاح على المجتمع المدني والأهلي لمعاضدة هذه الجهود من خلال مؤسسات عدة، وجرت المصادقة على القانون الخاص بالاقتصاد الاجتماعي التضامني. ويشدد بسباس على أنّ مؤسسات الوقف يمكن أن تلعب دوراً مهماً في المجتمع شأنها شأن مؤسسة الزكاة ذات البعد الديني، وهناك من يعيب على الدين الانكماش، باقتصاره على أغراضه التعبدية البحتة، لكنّه بإحياء المؤسسات ذات البعد الديني يمكن أن يرفع التهميش والفقر والظلم المجتمعي. ويشير إلى أنّه "بغض الطرف عن الجانب الديني، هناك مؤسسات مرادفة للوقف على غرار مؤسسات خيرية معترف بها في القانون تحمل عادة اسم مؤسسها من شخصيات وطنية وثقافية ومجتمعية، وهناك مؤسسات عدة في أوروبا وفي أميركا، أسسها أثرياء وجعلوا أموالها وقفاً على أغراض خيرية وذات طابع غير ربحي، لكنّ المنظومة القانونية التونسية العلمانية والوضعية غضت الطرف عن المؤسسات القائمة في دول علمانية عدة استلهمنا منها قوانيننا الوضعية". ويتساءل عن الضرر الذي سيمسّ الحداثة أو المجتمع إن تمّ وقف أموال أو ممتلكات مثلاً لتمويل الاهتمام بالمدارس من قبيل إمدادها بالماء الصالح للشرب.

الصورة

وتعيد دراسة منشورة للمديرة الجهوية للملكية العقارية التابعة لوزارة أملاك الدولة، دليلة بن سمية، سبب إلغاء الأحباس في تونس إلى "الانحراف بالدور الحقيقي للأوقاف المبني أساساً على مساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، وكان لزاماً على المشرّع أن يتدخل لإلغاء كلّ تحبيس عام أو لفائدة إحدى الزوايا، وذلك بموجب الأمر المؤرخ في 1956 حين أدمجت الأحباس العامة بملك الدولة والتي تناهز قرابة 30.000 عقار". وتضيف أنّه تم في مرحلة ثانية إصدار الأمر المؤرخ في 18 يوليو/ تموز1957 الذي منع بمقتضاه التحبيس بنوعية الخاص والمشترك وإرجاع أوقافه ملكاً لمستحقيها، وتأسست للغرض لجان جهوية لتصفية الأحباس المذكورة والتي ما زالت إلى يومنا هذا تقوم بحلّ هذه الأوقاف وتوزيعها بين مستحقيها نظراً للصعوبات القانونية والعملية التي اعترضت هذه اللجان باعتبار أنّ أغلب العقارات المحبسة هي عقارات مسجلة أصابها داء جمود الرسوم العقارية وبقيت خارج المخططات التنموية للدولة، فضلاً عن حرمان أصحابها من الانتفاع بخيراتها واستغلالها في تأسيس المشاريع التنموية الفلاحية أو السكنية أو السياحية أو الصناعية. وبالرغم من تدخل المشرع، فإنّ هذه الرسوم شكلت وما زالت أكبر العوائق للتنمية باعتبارها خارج الدورة الاقتصادية فضلاً عن كون إعادة إحياء قانون الأوقاف الآن وفي هذا الوقت بالذات يطرح العديد من التساؤلات والدهشة، إذ إنّنا الى الآن وبعد أكثر من نصف قرن على إلغاء نظام الأحباس ما زلنا نعاني من الكوارث الاجتماعية والاقتصادية التي تسبب فيها هذا النظام، ولعلّ الذاكرة لا تنسى بسهولة المظلمة التاريخية التي تعرّضت لها عروش (قبائل) المثاليث في الساحل التونسي في خصوص أوقاف عزيزة عثمانة وكذلك عائلة سيالة في صفاقس في ما بات يعرف بأراضي السيالين، بحسب دراسة بن سمية. وتؤكد الدراسة أنّ للوقف وظيفة اجتماعية وأهدافاً دينية، إذ لعبت الأوقاف دوراً كبيراً في مساعدة الفقراء والمساكين وعابري السبيل، وفي بناء الدولة الإسلامية المبنية في الأساس على التكافل والتحابب ومساعدة المحتاجين والإيثار. وقد قسمت أراضي الأحباس أو الأوقاف إلى ثلاثة أنواع: أحباس خاصة، وأحباس عامة، وأحباس مختلطة.
من جهته، يؤكد الباحث في العلوم الإسلامية، سليم ابن الشيخ، لـ"العربي الجديد"، أهمية منظومة الوقف التي تعد عريقة وقديمة قدم الإسلام، وحتى قبل ظهور الإسلام، فقد كانت موجودة عند العرب وعند اليهود، وأول وقف هو وقف الكعبة الشريفة وهو موجود وموثق في النصوص القديمة، مشيراً إلى أنّ هذه الثقافة والآلية رعاهما الإسلام ووضع لهما الأحكام لرعايتهما وتنظيمهما. يتابع أنّ العمل بالأحباس بقي في تونس إلى حدود عام 1957 تاريخ حلّها وإلغائها، وسابقاً كانت توضع الأوقاف السخية للإنفاق على التعليم والطلاب وتخصيص منح لهم، ورعاية المساجد ودور العبادة والقائمين عليها، مشيراً إلى أنّ مدارس شهيرة عدة كان يجرى الإنفاق عليها من الأوقاف على غرار المدرسة الباشية والعصفورية والحسينية. يضيف ابن الشيخ أنّ الأمر لا يقتصر على التكفل بالتعليم وطلب العلم ودور العبادة بل كان للأوقاف دور اجتماعي في بناء المستشفيات والمصحات وعلاج المحتاجين ورعاية الفقراء وغيرهم من المحتاجين. ويعبّر الباحث عن أسفه لإلغاء منظومة الأوقاف لما لها من دور اجتماعي وتنموي وعلمي واقتصادي قائلاً إنّ "سبب حلّ هذه المنظومة سنة 1957 كان سوء الإدارة وضعف الحوكمة في جمعية الأوقاف"، مؤكداً أنّه سبب غير وجيه لحلّ منظومة خيرية بهذه الأهمية، بالنظر خصوصاً إلى التجارب المقارنة في دول إسلامية وحتى علمانية عدة. ويتأسّف الباحث لربط الأوقاف بمغالطات وأحكام مسبقة من قبيل العودة بالبلاد إلى القديم الذي تجاوزه الزمن، بل يجب أن ينظر للوقف كمؤسسة يمكن أن تدفع الاقتصاد والتنمية والتضامن وتشجيع الشباب وليس لرعاية دور العبادة فقط، مشيراً إلى التجارب الناجحة في تركيا التي تساعد في رعاية بيوت الله وفي العمل الاجتماعي. كذلك، يدعو للتفكير جماعياً لإعادة الاعتبار للمؤسسة الوقفية، ما سيكون له آثار إيجابية جداً إذا رافقته الحوكمة الرشيدة وحسن التصرف.

ويشير ابن الشيخ إلى أنّ تونس تسجل خسارة كبيرة بسبب التخلي عن منظومتي الزكاة والأوقاف، لأنّ المؤسسة الوقفية هي مؤسسة اجتماعية وتربوية واقتصادية وثقافية، فالدولة غير قادرة على الإنفاق على مؤسسات عدة لا ريع لها ولا ربح على غرار مؤسسات التعليم ودور العبادة والمؤسسات الاجتماعية. وحول الجدل السياسي والإيديولوجي الذي يرافق منظومة الأوقاف، يؤكد الباحث أنّه "ينقص اليوم إطلاق حوار مجتمعي للتعريف بمنظومة الأوقاف والتأسيس لمناصرة داخل المجتمع للوقف" لافتاً إلى أنّه يجب على الناس أن يفكروا خارج الجانب السياسي والإيديولوجي لأنّه كلما دخلت السياسة على أمر عملت على إفساده".
ويعترض خبراء وقيادات في أحزاب سياسية يسارية وحداثية، فكرة إحياء منظومة الأحباس في تونس، لاعتبار ذلك يمس من مدنية الدولة، وفي هذا السياق، قال الوزير السابق حسين الديماسي إنّ قانون إحياء الأوقاف خطير جداً ويؤسس لدولة داخل الدولة، بحسب تعبيره. وأضاف أنّ الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة أوقف العمل به إثر خروج الاستعمار الفرنسي من تونس مباشرة، نظراً لآثاره السلبية. كذلك، أوضح الديماسي أنّ هذا القانون يخوّل للأشخاص تقديم عقارات للدولة يمكن أن تكون مستشفيات، ومدارس ومساجد تكون مداخيلها للدولة لكنّ نفقاتها من الأحباس، وخارج سيطرة الدولة، وهذا ما يثير مخاوف عدة من ظهور مؤسسات عمومية ليست تحت سيطرة الدولة بل تتبع أحزاباً أو جماعات غير معلومة.

المساهمون