"الهريسة" التونسية... أكلة تقليدية على الموائد في كلّ وقت

06 يناير 2022
فلفل مجفف وتوابل وآلة هرس (العربي الجديد)
+ الخط -

في منطقة المعمورة بمحافظة نابل شمال تونس، تصنع مئات من النساء داخل بيوتهنّ "الهريسة" بالطريقة التقليدية. يجتمعن أحياناً وسط حوش دار إحداهنّ ليتشاركن العمل. كلّ منهنّ تقوم بإحدى مهمات غسل الفلفل الأحمر المجفف وطحنه، أو تتبيل الفلفل بالثوم وبهارات، أو وضعه في أوان من بلّور وخلطه بزيت الزيتون من أجل عرضه للبيع في محافظات أخرى، باعتبار أن شهرة "الهريسة النابلية" كبيرة بسبب نكهتها الخاصة. والتونسيون مدمنون على استهلاك كل أنواع "الهريسة" سواء تلك المصنوعة بطريقة تقليدية أو المعلّبة التي تنتجها مصانع. ولا تغيب عن موائدهم، وتُقدم كمقبلات أو تُستعمل مكوناً أساسياً لمنح النكهة لأطباق كثيرة. 
في غرفة بسيطة بمنزلها، تضع داودة بن سالم على مائدة صغيرة شرائح فلفل مجفف وبعض التوابل، وأداتها فقط آلة هرس صغيرة لخلط الفلفل ببهارات مثل الثوم والتابل (خلطة تونسية وجزائرية)، وإضافة زيت الزيتون إليه. تقول لـ"العربي الجديد": "أصنع الهريسة على الطريقة التقليدية على غرار بقية النساء في منطقة نابل لاستخدامها في الاستهلاك المنزلي أو لبيعها في محلات ومعارض مخصصة للمأكولات التونسية". تضيف: "أقوم بتتبيل الفلفل بعد طحنه بكميات كافية من التوابل والثوم والملح لجعل الفلفل ذا مذاق جيد وصالح للاستهلاك مدة أطول، والذي يتطلب أيضاً حفظه في أوانٍ بلّورية". 
يبدأ عادة زرع الفلفل الأحمر في تونس في إبريل/ نيسان. وتختلف أنواعه خصوصاً تلك التي تستخدم في صنع "الهريسة". ويتجاوز محصول البلاد من الفلفل 500 ألف طن سنوياً، علماً أنّ نابل تشتهر بزرع كلّ أنواع الفلفل الأحمر، ما جعلها موطن صنع "الهريسة" بطريقة تقليدية. ويجفف الفلفل الأحمر ذو المذاق الحار خلال فصل الصيف لبيعه في غالبية الأسواق على مدار السنة.

وكان طحن الفلفل يحصل سابقاً باستخدام آلة الرحى التقليدية التي تتألف من قطعتي حجارة دائريتين توضعان فوق بعضهما البعض، ويتوسط الحجر العلوي ثقب يوضع داخله ما يراد طحنه. ويدار حجرا الرحى يدوياً باستخدام خشبة مثبتة في الجزء العلوي. أما اليوم فباتت النسوة يستعملن مطحنة بسيطة من معدن تدارها يدوياً أيضاً.

كذلك، تشتهر منطقة القيروان (وسط) بصنع "الهريسة" بالطريقة التقليدية، لكنها تعتمد طريقة مختلفة في التتبيل والتجفيف. ويشارك سكان منطقتي نابل والقيروان في معارض تستضيفها مناطق عدة لعرض منتجات "الهريسة" التي جعلتهما يحتلان المراتب الأولى في إنتاجها للاستهلاك المحلي، وتوزيعها أيضاً في أسواق خارجية. 

تبيع بعض التونسيات "الهريسة" في محلات ومعارض (العربي الجديد)
تبيع بعض التونسيات "الهريسة" في محلات ومعارض (العربي الجديد)

وتقول منجية (54 سنة) لـ"العربي الجديد": "لا توجد عائلة في منطقة الوطن القبلي نابل لا تصنع مؤونتها من الهريسة. وتحرص جميع نساء المنطقة على تعليم بناتهنّ طريقة صنعها، لأن غالبية العائلات تقدم الهريسة كعادة غذائية في أطباقها، ولا تستغني عنها". تضيف: "في السابق، كانت كل عائلة توفر مؤونتها من الهريسة، من دون أن تحتاج إلى شرائها، وتخزّنها في جرار من الفخار بعد خلطها بكمية كبيرة من زيت الزيتون كي تبقى صالحة للاستهلاك لأشهر، علماً أنّ الثوم والتوابل يعملان أيضاً على بقاء الهريسة صالحة للاستهلاك أطول فترة".
واليوم لم تعد عائلات كثيرة تصنع مؤونتها من المواد الغذائية المختلفة وبينها الهريسة، فتلجأ إلى استهلاك تلك المعلّبة التي تختلف كثيراً عما يصنع داخل بيوت نابل، لذا باتت نساء كثيرات في المنطقة يصنعن كميات مخصصة للمؤونة الخاصة، وأخرى للبيع من أجل توفير مداخيل مهمة للعائلات. وتروّج بعضهن منتجاتهن في مطاعم ومحلات لبيع المواد الغذائية، وحتى بعض الفنادق. 

العائلات التونسية لا تستغني عن "الهريسة" (العربي الجديد)
العائلات التونسية لا تستغني عن "الهريسة" (العربي الجديد)

يقول أستاذ التاريخ ورئيس جمعية صيانة مدينة نابل، أنور المرزوقي لـ"العربي الجديد": "ساهم الموركسيون المسلمون الذي بقوا في الأندلس خلال القرن السابع عشر في ظهور عادات غذائية عدة، وانتشار أنواع من مزروعات الخضار بينها الفلفل بكل أنواعه، والذي توسع إلى مناطق تقع على الشريط الساحلي بينها نابل التي باتت تشتهر بزراعة الفلفل المخصص للهريسة التي تحولت بدورها إلى عادة غذائية مهمة لسكانها وآخرين من باقي المحافظات". 

وتحتضن نابل في نوفمبر/ تشرين الثاني من كلّ سنة مهرجان "الهريسة" الذي يستقبل آلاف الزوار من أنحاء البلاد، وتعرض فيه النساء بضائعهن من "الهريسة" المعلّبة بأشكال مختلفة، بينما يقدم أشهر طهاة البلاد مأكولات تعتمد بشكل كبير على هذا الطبق. 
وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قدمت تونس ملف "الهريسة: المعارف والمهارات والممارسات المطبخية والاجتماعية" لإدراجه ضمن قائمة التراث غير المادي في منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو).

المساهمون