لحافٌ أبيض مزركش بخطوط ملونة يلفّ كامل جسد المرأة، مع مظلّة من سعف النخيل. إنّه زيّ "البسكري" أو "الملحفة"، ولا تجده سوى في جزيرة جربة في جنوب تونس. يُشبه بعض الأزياء التونسية الأخرى، لكنّه مختلف لناحية الحياكة والشكل واللون وطريقة اللباس. ويختزل هذا الزي هوية منطقة بأكملها، خصوصاً أنها تنفرد به دون سواها. في ذلك المكان، لم تكن النساء يرتدين غير البسكري. أما اليوم، فبات غالباً محصوراً بكبار السن.
تستخدم مواد ووسائل مختلفة لحياكة البسكري. قد يُحاك من الحرير المرصّع بالفضة، وهو لباس خاص بأصحاب النفوذ والطبقة الغنية. وقد يُحاك من بعض الأقمشة العادية كـ الحايك"، ويكون أبيض اللون بالأساس وفيه بعض الخطوط الحمراء فقط، وترتديه غالبية النساء. وبات هذا الزي بمثابة هوية خاصة بالنساء اللواتي يرتدينه أكثر في المناسبات، ويتميّز بزينته وألوانه، وذلك بحسب نوع الحفل أو المناسبة.
يُصنع البسكري بواسطة "النول"، ويطلق على صانع ذلك اللباس إسم "الحوكي" نسبة إلى الحياكة. وتتطلب صناعة الواحد منه نحو أسبوعين، لإنتاج قطعة بطول أربعة أمتار تكون كافية للف كامل جسد المرأة. ويباع العادي منه بـ25 دولاراً. أما ذلك المصنوع من الحرير والمزين بخيوط من فضة، فيباع بما بين 400 و600 دولار. في هذا السياق، يقول صالح الطرابلسي، أحد "الحوكيين" في جربة، والذي يصنع البسكري منذ أكثر من 20 سنة، إنه "أُدخلت بعض التغييرات على مستوى الزينة لتتماشى مع العصر اليوم، من دون أن يفقد الزي هويته وخصوصيته. وغالباً ما تستخدم العديد من الألوان في صناعة البسكري، وترتديه النساء في الأعراس وغيرها من المناسبات".
ترتدي المرأة البسكري فوق لباسها العادي، وتلف به كامل جسدها ليغطي حتى رأسها. كذلك، تضع قبعة على رأسها مصنوعة من سعف النخيل خلال الصيف أو الشتاء. عن هذا اللباس، تقول فاطمة (50 عاماً) إنّه "يهودي الأصل، وتنفرد به جزيرة جربة التي يقطنها عدد كبير من اليهود. لكنّ النساء يرتدينه منذ أكثر من 150 سنة على اختلاف دياناتهنّ في تلك المنطقة". تضيف: "رّبما ترتديه بعض النساء اليوم للحفاظ على هوية المنطقة. لكنّ سابقاً، كان يفرض على المرأة ألا تخرج من البيت من دون أن تلتحف به لتغطي كامل جسدها. وعلى الرغم من كونه يُلبس اليوم غالباً من قبل كبار السنّ، إلاّ أنّ العروس تلبسه طيلة أيام زفافها، ويكون ملوناً ومصنوعاً من خيوط الحرير بالأساس. كذلك، ترتديه الفتيات للزينة في الحفلات وبعض المناسبات. بالتالي، يعد اليوم حاضراً في العديد من المناطق في مدينة جربة".
وتقع جربة في الجنوب الشرقي لتونس وتتبع محافظة مدنين. وتعد من أكبر جزر أفريقيا وتلقب بجزيرة الأحلام، وهي من أشهر المناطق السياحية في تونس، خصوصاً خلال الحج اليهودي إلى كنيس الغريبة. ويعدّ هذا الكنيس أقدم معبد يهودي في العالم ويزوره آلاف اليهود سنوياً. ويعود تشييده إلى العهد الروماني. وتوجد فيه أقدم نسخة للتوراة في العالم.
يقول عبد الرحمن (62 عاماً)، وهو أحد تجار الملابس في المدينة العتيقة في الجزيرة، إنّ "تجارة البسكري تزدهر خلال موسم السياحة، وخصوصاً حج الغريبة". يضيف أن العديد من التونسيات وغيرهنّ يقبلن على هذا اللباس الخاص في منطقة جربة، موضحاً أن "غالبية اللواتي يرتدين البسكري اليوم كبيرات في السنّ. وترتدي النساء الحريري منه في الأعراس والمناسبات فقط. وظلت الحرفة مقتصرة أيضاً على كبار السن بسبب عدم إقبال الشباب على تعلمها على غرار بقية الحرف التقليدية".
يضيف عبد الرحمن أنّ "غالبية الروايات تشير إلى أنّ أصول الزي يهودية بالأساس، لا سيما أنّه أبيض. وكانت جلّ النساء لا تخرج من بيوتها من دون ارتدائه. لكنّ مع انتشار الملابس العصرية، تراجع الإقبال على لباس البسكري، وظل محصوراً بكبار السنّ. وعمل بعض صانعيه على تطوير شكله وتطريزه للتشجيع على ارتدائه في حفلات الأعراس. لكن في السوق ما هو باهظ جداً، ويُصنع من الحرير وخيوط الفضة، وقد يفوق سعره 500 دولار. ولا يُقبل على شراء البسكري مرتفع السعر سوى المقبلات على الزواج أو السياح".
من جهتها، تقول سنية، وهي إحدى سكان الجزيرة، إنّ "البسكري، وعلى الرغم من تراجع ارتدائه في المنطقة بالمقارنة مع السابق، إلاّ أنّ أي امرأة في الجزيرة تملك منه قطعة أو قطعتين لارتدائه في المناسبات. وما زالت العروس تتجمل به طيلة أيام أسبوع زواجها ولا تخرج من بيتها من دونه". تضيف أنّه "متوفر فقط في جزيرة جربة، على الرغم من أنّه يشبه العديد من الأزياء التونسية الأخرى، على غرار السفساري الذي يلف أيضاً كامل جسد المرأة، إلاّ أنّ البسكري خاص بنساء جربة لكونه ظهر في هذه المنطقة".