"أجانب" أوكرانيا... الوجه الآخر لعنصرية أوروبا المكتومة

10 مارس 2022
يلتقط سيلفي في مركز إيواء في بولندا (فوجديك رادوانسكي/ فرانس برس)
+ الخط -

"لم أحتج لأعرف لماذا جرى منعنا من ركوب القطار. صعد كُثر من ذوي البشرة غير السوداء من دون أن يسألهم أحد شيئاً". هذا ما قاله الطالب الجامعي النيجيري إبراهيم لـ"العربي الجديد" عن رحلة هروبه من الحرب في أوكرانيا، والتي توجه فيها من العاصمة كييف إلى الحدود البولندية، وواجه فيها، بحسب قوله، "صعوبات لا توصف، وبينها المشي عشرات الكيلومترات".
ويظهر ذلك إضافة إلى شهادات أخرى للاجئين غير أوكرانيين، أن سلطات كييف وقعت في فخ العنصرية والتمييز، في وقت ناشد قادتها العالم الوقوف إلى جانبهم. فالقادمون إلى بلدة ميديكا البولندية المحاذية للحدود مع أوكرانيا، وبينهم صحافيون غربيون، عايشوا "صدمات في المعاملة اختلفت عن مواضيع تقاريرهم"، كما ذكر طالب نيجيري آخر يدعى جايمس كان يدرس في خاركيف شرقيّ أوكرانيا. وهو جزم في حديثه لـ"العربي الجديد" بأنّ "هذه المعاملة لم تستند إلى دين، بل إلى الأصل العرقي ولون البشرة، إذ تعرّض طلاب عرب لتمييز مماثل".  
وفي ميديكا، حاولت حكومة وارسو تخفيف وطأة الاتهامات التي طاولتها بالتمييز بين الهاربين الأوكرانيين أو ذوي البشرة البيضاء، والباقين. لكن ذلك لم يغيّر "الاتجاه الأوروبي الذي يشعر المرء بعار وقلق كبيرين من العنصرية التي أخذت طريقها أيضاً إلى الشاشات وتحدث عنها زملاء صحافيون"، بحسب ما قال صحافي دنماركي رفض كشف اسمه لـ"العربي الجديد" بعدما سلك مع اللاجئين المسافة الأخيرة إلى أحد المعابر الحدودية. 

مرض العنصرية الأوروبية 
وفيما لم تنحصر مشقات الانتقال من المدن الأوكرانية إلى حدودها مع أوروبا، بالأفارقة والعرب، طاول التمييز مقيمين وطلاباً آسيويين، بينهم زوجات حملن، مثل الأوكرانيات طفلاً أو اثنين، قبل أن يقرأن جملة "مخصص للنساء والأطفال الأوكرانيين" على قطارات المغادرة. وبعد أكثر من أسبوع على الغزو الروسي لأوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير/ شباط الماضي، وترافق مع تدفق مئات آلاف اللاجئين من هذا البلد، ذكّرت مشاهد النزوح مجدداً بمرض العنصرية الأوروبية والانتقادات الشديدة التي يتعرض لها حتى من الشارع الأوروبي، من تكرار مآسي استقبال اللاجئين السوريين عام 2015، والتي ارتبطت أيضاً بالحرب وآثارها. 
يرى البعض أنّ معاناة الهروب من الحرب في أوكرانيا كان يمكن أن تمر لو فتحت القارة الأوروبية ذراعيها للجميع، وأظهرت المساواة المطلوبة تجاههم. وبالنسبة إلى إبراهيم وجايمس اللذين أصرا على العودة لاستكمال دراستهما في أوكرانيا بعد الحرب، بدت "القارة الأوروبية كأنها لم تتقدم، بل تعيش على عنصرية مكتومة".
ما واجهه أكثر من 12 ألف طالب أجنبي في رحلة هروبهم من أوكرانيا إلى البلدان الحدودية، هو تصريح الأوروبيين بأنهم يمنحون أولوية لاستقبال الأوكرانيين، وتبرير تمييزهم "مواطني الطرف الثالث"، أي غير الأوروبيين والأوكرانيين. كذلك رافقت تغطية صحافية "معيبة بكلّ معنى الكلمة" اللاجئين الروس الذين وصل بعضهم من أوكرانيا إلى دول الجوار، كما يذكر الباحث الدنماركي في سياسات الهجرة الأوروبية، سفيند غراوسغورد لـ"العربي الجديد"، ويقول: "بثت التغطية الصحافية غير المتوازنة لحركة الهروب واللجوء انطباعاً أثار الاشمئزاز عن هؤلاء الذين يشبهوننا (الأوكرانيون) من خلال تعابير تعكس سياسة عامة مستمرة في أوروبا منذ أزمة اللاجئين عام 2015". 

واجه بعض الملونين تمييزاً على متن قطارات (بياتا زاورزيل/ Getty)
واجه بعض الملونين تمييزاً على متن قطارات (بياتا زاورزيل/ Getty)

"البيض وغير البيض"
سارع الاتحاد الأوروبي إلى استقبال أكثر من مليون لاجئ من أوكرانيا، بينما "غصّ" ببضعة آلاف من "مواطني الطرف الثالث"، وبعضهم أرادوا فقط مواصلة طريقهم إلى بلدانهم الأصلية، وأحدهم المصري عبد السلام حسن الذي يدرس هندسة الميكانيك في جامعة بمدينة خاركيف، قبل أن يضطر إلى مغادرتها مع اشتداد القصف الروسي، ومحاولة القوات الغازية الروسية تطويقها. 
وهو يقول لـ"العربي الجديد": "عشت صدمة التمييز غير المبرر، ويمكن أنّ أعتبر ما جرى داخل أوكرانيا ارتباكاً وتصرفات فردية، لكن كيف يمكن أن تدعي أوروبا أنّها تقوم على قيم حقوقية في وقت تميز بين ضحايا حرب البيض وغير البيض؟".
ويذكر الخبير في سياسة الهجرة الأوروبية الدنماركي سفيند غراوسغورد أن "صورة أوروبا ملطخة منذ أن تدفق اللاجئون إليها عام 2015. وإذا نظرت إلى نقاشات سياسييها الأخيرة حول مواطني الطرف الثالث ستشعر كأوروبي بغضب كبير، فكيف يمكن التمييز بين ضحية وأخرى. وحتى لو أقلقهم تقدم آلاف اللاجئين غير الأوكرانيين، فلا شيء يبرر اللجوء إلى التمييز. كان يمكنهم أن يشملوا الأجانب بقانون السماح بالبقاء 3 سنوات بلا لجوء التي اتفقت بعض الدول على تطبيقه، من دون إطلاق أحاديث عنصرية عن التشابه السخيف في الهيئة والملامح". 
من جهتها، تقول عالمة النفس السويدية ستينا هولمكفيست التي تطوعت لمساعدة اللاجئين: "تنطلق الحالة النفسية التي يعيشها بعض السياسيين الأوروبيين من ارتباك المشهد الذي واكب الأزمة السابقة للاجئين عام 2015، لكنّ القادة الأوروبيين، وبينهم البولنديون ودول الجوار الشرقية التي لا تظهر موقفاً سلبياً جدياً من لاجئي العالم الثالث، لا يجب أن يقبلوا بتشريع خطاب التمييز الذي ظهر في شكل عنصري وفج. من هنا، يمكن القول إنّ الإشارات الأوروبية لم تكن موفقة على الإطلاق، وأزال التخويف من تدفق اللاجئين الفوارق بين التطرف في مواقف رئيس وزراء المجر اليميني المتشدد فيكتور أوربان وقادة أوروبيين آخرين".
إلى ذلك، يروي عرب وأفارقة استطاعوا مغادرة أوكرانيا أنّ "الرشى واقع قائم. ومقابل 100 دولار يمكن أن يجد أي شخص فجأة مقعداً على متن قطار أو حافلة. ويعود ذلك إلى الفساد المتوارث من العهد السوفييتي، والذي لا يزال مستمراً في بعض المرافق بأوكرانيا، ما يعوق انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي".

استقلّ طلاب هنود باصاً للهروب من أوكرانيا (صاقب علي/ Getty)
استقلّ طلاب هنود باصاً للهروب من أوكرانيا (صاقب علي/ Getty)

عنصرية أوسع... مع الروس 
وفيما تراقب هولمكفيست الصور وأشرطة الفيديو والسقطات الإعلامية التمييزية التي تكشف التصرفات العنصرية في حق غير البيض، سواء في أوكرانيا أو البلدان الحدودية، تؤكد أن "الآثار النفسية عند ضحايا العنصرية لن تُمحى بسرعة، ولن تُداوى عبر تصريحات ديبلوماسية، بل من خلال ممارسات عملية تهدف إلى الاعتذار عمّا جرى، وهو ما لم نره حتى الآن. والأخطر أن الأخبار تنقل أن الأوروبيين متفقون على استقبال اللاجئين من أوكرانيا، لكن ليس مواطني الطرف الثالث". 
وخلال الأيام التالية للغزو الروسي لأوكرانيا، سادت أجواء أوروبية ذكّرت بنظرة الغرب العنصرية التمييزية للآسيويين المسؤولين انطلاقاً من الصين، عن انتشار فيروس كورونا. وتناولت تقارير نشرتها وسائل إعلام تقليدية وأخرى على شبكات التواصل الاجتماعي في الغرب ثقافة المطبخ الآسيوي وتقاليده، وربطت تعليقات عنصرية مبطنة الجائحة بثقافة المأكولات الصينية، فانعكس ذلك في الشارع، ما جعل بعض الصينيين وآخرين من أعراق آسيوية يعلقون بقولهم: "لسنا فيروس كورونا". 

تحويل بوصلة الشعوب
ويفسر غراوسغورد هذا الأمر بـ"قابلية تحويل بوصلة الشعوب خلال الحروب والأزمات". ويشير إلى "انتشار رهاب روسيا، من خلال تعميم المواقف العنصرية السلبية على شعبها بطريقة تشبه دمغ المسلمين جميعهم بصفة إرهابيين". ويشدد على أن "توجيه سياسيين خطابات لعزل روسيا لم يضبط تحويل الأمر إلى حملة استهداف مبطن وعلني لكل ما هو روسي". 
وتعلّق هولمكفيست بأن "تفكير مطعم في كوبنهاغن في تغيير اسمه بعد نحو 60 سنة من تأسيسه لأنه يرتبط بذاكرة الروس يلمّح إلى مستوى نفسي غير جيد في العلاقة بكل ما يمت بصلة إلى روسيا. من هنا لا تنحصر قضية التمييز بالملونين فقط، بل تدخل في عمق الهوية الأوروبية". 
ويتعلق المثل الذي قدمته هولمكفيست بمطعم "لايكا" الذي تأسس عام 1962، ويحمل اسم الكلب الروسي الذي أرسله الروس في رحلة إلى الفضاء. وقد أطلق على المطعم بعدما زار رائد الفضاء الروسي يوري غاغارين كوبنهاغن في ذلك العام. 
وكانت منظمات حقوقية دولية بينها "أمنستي" وأخرى إنسانية في بولندا ودول أوروبية مختلفة قد نددت بالممارسات العنصرية وبمحاولة البعض استخدام العنف وتصويب البنادق والتهديد بقتل الأفارقة والآسيويين. وطالبت هذه المؤسسات الحكومات الأوروبية بالتوقف عن الخطاب التمييزي الذي يعطي ما يشبه شرعية لانتشار التمييز والعنصرية، وبينها تلك التي تستهدف الروس أيضاً، والذين تحدث كثيرون منهم يقيمون في أماكن مختلفة في أوروبا عن تعرضهم لمضايقات وتحرشات رغم معارضتهم سياسات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. 

يحاولون التأقلم مع ظروف مراكز الإيواء (بياتا زاورزيل/ Getty)
يحاولون التأقلم مع ظروف مراكز الإيواء (بياتا زاورزيل/ Getty)

اعتذار بولندي
ورغم أن وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا اعتذر قبل أيام عن التمييز الذي حدث على الحدود ووعد بحل المشكلة، لكن شهادة أدلى بها الصحافي في جريدة "إنفورماسيون" مارتن غوتكسا نسفت حدوث أي تغيير. وهو ذكر أنه اضطر إلى السير مسافة 30 كيلومتراً مع أفارقة وآسيويين نحو حدود بولندا، وكتب: "لم يظهر الجنود الأوكرانيين أي رحمة مع الأفارقة والجنوب آسيويين، واستخدموا بنادق وهراوات لتقسيم اللاجئين الفارين من الحرب بين بيض وملونين، ومنعوا بالقوة ركوب السود عبر لكمهم وصفعهم وركلهم بوحشية، فاضطر كُثر وسط الأجواء المشحونة بالخوف إلى الاستجابة والسير على الأقدام كل هذه المسافة".  
ويضيف: "الأكيد أن جذور العنصرية تتجاوز حدود أوكرانيا إلى فضاء أوروبي أوسع، وترتبط بضيق النظرة العرقية لتصنيف البشر بناءً على اللون. صحيح أنه جرت محاصرة التصريحات العنصرية التمييزية التي تتعامل مع اللاجئين من أوكرانيا وباقي القارة الأوروبية بطرق مختلفة عن غيرهم، لكن توسيع أجواء العنصرية لتشمل روس عاديين، وبعضهم طلاب في جامعات أوروبية، يقدم صورة واضحة عن الوجه الآخر لإنسانية القارة الأوروبية، الذي يحتاج إلى إعادة قراءة ومواجهة جريئة". 

وتقول هولمكفيست، المطلعة على العلاقة الوثيقة بين شعور القبول والرفض في مجتمعات القارة، إنّ السجال الأخير "سيئ جداً للقارة، فهو يفقد الأوكرانيين من جهة جانباً من التعاطف، وخصوصاً في مجتمعات تعرضت لعنف عنصري، ويجعل سمعة القارة الأوروبية في الحضيض، ويضع السياسيين الأوروبيين في موقف لا يحسدون عليه على صعيد تطبيقهم معايير مزدوجة، وتقسيمهم البشر بناءً على الأصل واللون. والرسالة الأخيرة هي الأخطر، إذ يتلقفها نحو 30 في المائة من مواطني القارة من أصول غير أوروبية، إذ يذكّرهم ذلك بأنّ قارتهم التي عاشوا فيها لأجيال قد تنقلب عليهم في لحظة". 

المساهمون