في مقهى "البندر" بشارع عزمي، في مدينة طرابلس، شمالي لبنان، تطلّ الشابة جنان (27 عاماً)، هي التي تقطن في منطقة المطل الأزرق المشرفة على أفقر مدن الساحل اللبناني. وفور وصولها، تحيي الزبائن وزملاء عملها، فيردون: "أهلاً أبو أحمد"، ما قد يصدم الزبائن الجدد في المقهى.
تسارع جنان، أو "أبو أحمد" كما تحب أن تنادى في المقهى، للدخول إلى المطبخ لتحضير المشروبات والنراجيل والاطمئنان أنّ كلّ شيء يسير على ما يرام، ولا تنسى التأكد من نظافة الأكواب والصحون وترتيب الطاولات وغيرها من الأمور التي تعتبرها من مسؤوليات عملها اليومي.
من هي "أبو أحمد"؟
تروي جنان قصتها لـ"العربي الجديد"، خصوصاً قصة عملها الذي يعدّ غريباً عن ثقافة مجتمع مدينتها. تقول إنّها فقدت والدها في سن مبكرة، شقيقتها متزوجة وشقيقها يعمل خارج طرابلس، وتقطن مع أمها. منذ تسع سنوات، سمعت أنّ أحد مقاهي المدينة يريد نادلاً للعمل بين الطاولات لتقديم المشروبات وغيرها، فشعرت بأنّها قادرة على القيام بهذا العمل وتحدي الصورة النمطية التي تفرض أن يكون عامل المقهى شاباً. وتوضح أنّ أهلها وأقاربها لم يعلموا شيئاً عن طبيعة عملها إلّا بعد نحو عام، مشيرة إلى أن والدتها تقبلت الأمر، فيما احتاج شقيقها وقتاً إضافياً.
لا تنفي "أبو أحمد" أنّها تعرضت وما زالت لمضايقات وتحرش من قبل بعض الزبائن ورواد المقهى، لكنها تتعامل بقسوة مع أي محاولة لمضايقتها، وتشير إلى أن بعض الزبائن لا يترددون في الدفاع عنها في حال لاحظوا أنّ أحداً يزعجها، بعدما باتت صديقة لمعظم زوار المقهى الذي يعج بالرجال من الصباح وحتى منتصف الليل من دون توقف.
وتقول جنان إنّ أحد الزبائن أطلق عليها لقب "أبو أحمد" لإشعارها بأنّها تشبههم، هي التي نجحت في فرض وجودها عليهم على الرغم من رفض العديد من رواد المقهى في البداية وجود نادلة في مقهى يعرف تاريخياً بأنه مخصص للذكور. وتؤكد جنان أنها تأقلمت مع لقبها الجديد منذ 9 سنوات ولا تريد تغييره، لافتة إلى أنّ معظم رواد المقهى لا يعرفون اسمها الحقيقي، وقد اعتادوا على اسم "أبو أحمد".
وحول تأثير وجودها كفتاة في المقهى على أحاديث الرجال وإطلاق العنان للشتائم، تؤكد جنان أنّ لا شيء تغير مع الزبائن أو أثر على أحاديثهم التي بقيت كما كانت. تضيف أنّ قلة منهم يخفضون أصواتهم إذا ما كانوا يتحدثون بمواضيع خاصة.
وعن حياتها الخاصة، لا تبدي جنان أسفاً على تركها التعليم لأنّه لن يغير حياتها في ظل ارتفاع نسبة العاطلين من العمل من أصحاب الشهادات والمتعلمين. وتوضح أنّ عملها في المقهى يساعدها في إعالة أهلها كما أنّه مصدر أمان بالنسبة إليها في ظل الاهتمام الذي تلقاه والصداقات التي كونتها في المقهى الذي تقضي فيه معظم وقتها.
وترفض جنان الزواج رفضاً تاماً، كما أنّها لا ترغب عادة في الحديث عن الموضوع. وكما يقول رواد المقهى، فقد اختارت العزوبية. أما هي، فتقول إنّ المقهى شريك حياتها، كما أنّها لا ترغب بالسفر أو الهجرة وتفضل البقاء في بلدها والموت فيه.
"تعرف ما نحب"
في زاوية المقهى، يجلس أبو سامر، وهو رجل ستيني متقاعد يقضي جل وقته في مقهى البندر في طرابلس. ولدى سؤاله عن جنان، يرفض مناداتها باسمها ويصر على تسميتها "أبو أحمد" كما تحب. يرى أنّ جنان باتت من أعمدة المقهى، وأنّ المقهى لا معنى له من دونها، "فهي تعرف أذواقنا وما نحب وما نكره، وتهتم بمشروباتنا والنرجيلة العجمية، وتتابع تغيير الفحم وتعد القهوة التي نحب. تعرف أننا نحب تناول الشاي المغلي مع السكر والقرفة بعد الغداء".
يعتبر أبو سامر أن جنان باتت مثل أحد أبنائه الذين يحبهم ويرعاهم، ويساعدها إذا ما احتاجت إلى ذلك، هي التي باتت تشكل جزء أساسياً من حياة كبار السن الذين يرتادون المقهى.
أما جهاد، وهو شاب ثلاثيني من رواد المقهى، فيقول إن "أبو أحمد" باتت جزءاً من يوميات الناس هنا، ويحرص الجميع على وجودها. ويوضح أنها لطيفة مع اللطفاء والعكس مع الزبائن المزعجين الذين يحاولون مضايقتها، لافتاً إلى أنها لا تزعج نفسها كثيراً بالدفاع عن نفسها في حال حصول مضايقات، إذ إن الزبائن الذين يحبونها يقومون بالواجب ويدافعون عنها بشكل متكرر.
"لا يمكن الاستغناء عنها"
يصل صاحب "البندر" أبو ربيع إلى المقهى متأخراً. يقول إن المقهى بأمانة "أبو أحمد". ما زال يذكر مجيء جنان إلى المقهى لتسأل عن عمل واستغرابه الأمر لكنّه وافق على توظيفها نظراً لوضعها المعيشي الصعب. ويقول إنّ اثنين من عمال المقهى تركا المكان استنكاراً لقدوم جنان لكنه أصر على بقائها لأنّه لمس من خلال عملها كفاءة ورغبة بالعمل الجاد والفعلي، وهو لا يخشى على مصير المقهى الذي يملكه بين يديها، موضحاً أنّها تتابع كلّ التفاصيل بدءاً من المشتريات وصولاً إلى تأمين راحة الزبائن وطلباتهم.
يعتبر أبو ربيع أنّ جنان في أمانته ويحرص على تأمين جو من الراحة لها في مقهى يعج بالشبان والرجال طوال اليوم. وهو يتولى إيصالها إلى منزلها عند منتصف الليل كما تعهد لوالدتها منذ سنوات عندما أقنعها بعمل ابنتها لهذا الوقت المتأخر من الليل، خصوصاً أنّ منزلها يبعد عن المقهى نحو عشرين دقيقة بالسيارة. يقول إنّه لا يمكنه الاستغناء عنها في المكان الذي يعتبر مكان رزقه لأنّها باتت جزءاً منه وصديقة الجميع.