المتابع للأحداث اليونانية، سها بعض الشيء عن معابد بوسايدون وأثينا وزوس وغيرهم، وارتحل بفكره صوب ساحة البرلمان، التي ضجّت بالاشتباكات بين الشرطة والمتظاهرين في العام 2011، حين ثار اليونانيون رفضاً لاتفاقية موقّعة بين الحكومة وصندوق النقد الدولي، والتي هدفت الى محاولة إنقاذ اقتصاد البلاد المتعثّر. تفاقمت الأمور وتدخلت أوروبا، وعلى رأسها ألمانيا، في الملف اليوناني. لم ينتهِ كل شيء. تواصلت الاحتجاجات في العام 2012، لكن الوضع بات ممسوكاً... حتى الآن.
ساحة البرلمان، تبدو أوروبية نموذجية: مبنى مهيب لمجلس النواب اليوناني، يحميه حرس يوناني تقليدي. يتبدّل كل ساعة. على أعمدة الانارة قبالة البرلمان، أعلام يونانية و... قبرصية. العصبية اليونانية ترفض نسيان جزيرة قبرص، في تكريس لعداء مستحكم مع الأتراك، لا يبدو أنه في طور المعالجة. على الجانب الآخر من البرلمان، صف طويل من مباني السفارات العربية والأجنبية.
على بعد أمتار عدة من البرلمان، تتوسط نافورة باحة التقاء شعبي، تضجّ بالحياة والموسيقى والبسطات الأوروبية المتفرّقة. وسائل النقل العام تعمل بدقة متناهية. كل شيء يبدو هادئاً و"أوروبياً" في الشكل. هدوء يخرقه انتشار كثيف لقوات مكافحة الشغب والشرطة في شكل غير معهود، في هذا النوع من البلدان من جهة، وهو ما قد يدوم مستقبلاً، على ما يروي صاحب فندق "كينغ جورج" في الساحة، من جهة أخرى.
يضحك الرجل حين تسأله عن احتجاجات العام 2011: "في أوقات التحدّي والمواجهات، أهتم برخام مدخل الفندق، الذي ينتزعه المتظاهرون من الأرض لرشق الشرطة به في الاحتجاجات، فأنا وحدي مَن يدفع ثمناً لها كل مرة". هو يدفع الثمن، لكنه ليس وحيداً؛ فبعد الفندق، تتشعّب الطرقات في سوق موحّد، يحتلّه السياح في وقت الذروة. في النهار، تجد الحركة "الاعتيادية"، وكل شيء يبدو على ما يرام. أما في الليل، فيظهر ما كان يخفيه النهار: جدران مزدانة بـ"غرافيتي" لأنصار المعارضة اليونانية، تتحدث عن "وحدة حال بين اليونان وأوكرانيا"، وثقة بـ"الأمل". كما تبرز الشعارات المعارضة في زحمة، وكأنها لا تريد الانكفاء نهائياً، بالرغم من إحجامها المؤقت. شعارات لا تكشف سوى عن ثقة.
ربما يحقّ للمعارضين الشعور بالثقة، فـ"الغرافيتي"، لا تحتلّ الجدران فحسب، بل أبواب المحال التجارية أيضاً، على مختلف أنواعها، المحلية والأجنبية، والتي لم يُزلها أصحاب المحال، في مشهد يحمل دلالتين: إما أن صاحب المحل مؤيد للمعارضة، وإما أنه لا يجرؤ على إزالة "الغرافيتي"، خوفاً من المعارضة. ما يعني أن المعارضة تمسك بالأرض في اليونان، وأن "الانتظار"، الذي تحيا به البلاد، سيؤدي الى انفجار في وقت ما.
للسوق حكاية جميلة، تتوزّع بين رقصات "زوربا"، وكلاب شاردة نائمة، و"بابل" عالمية، تختلط فيها لغات الأرض، ما قد يسرّ قلوب أرسطو وأفلاطون وسقراط، لو كانوا أحياء. في السوق، تبدو أسعار مختلف السلع "تشجيعية"، تماماً كأسعار الفنادق، التي انخفضت بنسب هائلة، في محاولة لجذب السياح. تمنح الحكومة اليوم الأولوية المطلقة للسياحة، خصوصاً في ظلّ وجود أراضٍ شاسعة برّاً وبحراً، تنتظر مَن يستثمرها، وفي ظلّ تسهيلات عدة في مختلف الأنشطة السياحية.
السوق، أيضاً وأيضاً، شهد حادثة لافتة، يوم الأربعاء 16 يوليو/ تموز الجاري. الشرطة في كل مكان. إقفال شوارع رئيسية في السوق. لا أحد يعلم ما الذي يجري. تشعر بأن أمراً ما يحدث، لكن الحياة تستمر بشكل عادي، كأنه لبنان بعد كل انفجار أمني. تستفسر سيدة عمّا يجري، فيجيبها شرطي، بعد إدراكه أنها سائحة: "هل تعرفين توني مونتانا (الممثل آل باتشينو في فيلم "سكارفيس (الوجه المشوه)"؟"، ردّت "نعم"، فيجيبها: "لقد أمسكنا بتوني مونتانا خاصتنا".
لم يكن توني مونتانا اليوناني، سوى المطلوب رقم واحد في اليونان وأوروبا في السنوات العشر الأخيرة، نيكوس مازيوتيس، المُتّهم بالانتساب الى مجموعة "الكفاح الثوري"، التي أبصرت النور مطلع الألفية الثالثة، وشنّت عمليات مسلحة عدة، منها إطلاق قذيفة "أر بي جي" على مبنى السفارة الأميركية، في أثينا في 12 يناير/ كانون الثاني 2007. لم يستسلم الرجل بسهولة أثناء إلقاء القبض عليه، بل تبادل إطلاق النار في السوق المكتظ مع الشرطة، فأُصيب شرطي، وسائحان أستراليان، بجروح، قبل أن يُصاب مازيوتيس برجله، إصابة طفيفة.
الصورة النمطية عن اليونان "السياحية"، بدأت تتراجع لمصلحة اليونان "الثورية"، التي يتوقف مصير الوحدة الأوروبية عليها، والتي سعت الصين الى "مدّ يد المساعدة إليها لإنقاذها من براثن الديون". بات سهلاً أن تجد المتسولين والفقراء منتشرين بكثافة. باتت البلاد أقرب الى بلدان العالم الثالث. ليست أثينا مجرّد معبد لأساطير الآلهة، بل صورة حقيقية عن أوروبا المستقبلية، ما لم تعد القارة العجوز الى سكة تطوّرها الذي بدأ بعد الحرب العالمية الثانية.