السبسي رئيساً في مواجهة الحقيقة

24 ديسمبر 2014
السبسي يدرك رفض التونسيين التفرد بالحكم (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
لم يتمكن قياديو "نداء تونس" من تذوّق طعم الفوز بالانتخابات الرئاسية التونسية ولا بالتشريعية قبلها، وبدت وجوههم جدية وصارمة ليلة الانتخابات وعشية الإعلان عن النتائج، في المنابر التلفزيونية وفي اللقاءات، ما عكس حالة من الانشغال من جهة، ووعياً بكمية الحقائق والمشاكل المتراكمة من جهة أخرى.

يدرك رئيس "النداء" والرئيس التونسي المنتخب الباجي قائد السبسي قبل غيره، أن ما أفرزته صناديق الانتخابات التشريعية وأكدته نتائج الرئاسية، هي رسائل واضحة من التونسيين تتلخص في أنهم لا يقبلون بتفرّد أحد في الحكم، وبأنهم يرغبون في مشهد سياسي متوازن، ما يفرض ائتلافاً سياسياً بالضرورة.

أما رسالتهم الثانية فهي الأهم في نظر العديد من المتابعين، تتمثّل في كمّ المطالب الاقتصادية والاجتماعية العاجلة التي لن تحتمل أي تأخير، فيما تبدو الرسالة الثالثة متعلّقة بتخوفات جزء من التونسيين ونُخبهم من إمكانية تراجع منسوب الحرية أو عودة وجوه من الماضي إلى السلطة.

السبسي سارع إلى التأكيد بُعيْد الإعلان عن النتائج الرئاسية، أن حزبه لن يحكم وحده ولا يستطيع ذلك، وكرر التشديد على أنه لن يُقصي أحداً، وأنه يريد توسيع قاعدة الحُكم بما يضمن أكبر قدر من الاستقرار السياسي، للانطلاق في مشاريع اقتصادية تتضمن إصلاحات سريعة وجوهرية لماكينة اقتصادية معطلّة.

غير أن الواقع السياسي في تونس له حساباته الحزبية المعروفة، وأهمها أن كل الأحزاب ألقت بمهمة اقتراح التشكيل الحكومي شكلاً ومضموناً في ملعب الرئيس الجديد، وأن بعض هذه الأحزاب ترفض الدخول إلى الحكومة مع أحزاب أخرى، على غرار موقف "الجبهة الشعبية" من حركة "النهضة".

لكن المتحدث الرسمي باسم "النداء" الأزهر العكرمي، يرى في حديث لـ"العربي الجديد" أن "الحوار يمكن أن يقرّب بين الجميع"، وهو ما حدث في ظروف أصعب سياسياً واجتماعياً عندما التقى الجميع تحت قبة الحوار الوطني، ما يعني أن حزبه قد يبذل جهوداً كبيرة للتقريب بين "الجبهة" والحركة.

يدرك الجميع أن "النهضة" يبقى لاعباً لا يمكن تجاوزه في أي تشكيل أو توجّه سياسي، وأن "الجبهة" ايضاً لاعب أساسي للباحث عن استقرار سياسي بحكم تأثير اليسار التونسي التقليدي في "اتحاد الشغل" وفي الدوائر الثقافية والإعلامية ذات التأثير القوي في توجّهات الرأي العام.

لكن "نداء تونس" وبالإضافة إلى كل هذا، يُدرك أنه لا يمكنه التنكر لحليف الأمس إبان معارضة الترويكا، ولا يريد أن يهدي المعارضة الجديدة حليفا شرساً مثل "الجبهة"، خصوصاً في ظل وجود ملفات اجتماعية واقتصادية قاسية.

ولا يبدو تشكيل الحكومة الجديدة بالأمر السهل الذي قد يتصوّره بعضهم، على الرغم من مساندة "آفاق تونس" و"الاتحاد الوطني الحر" المعلنة سابقاً، وتأكيد "النهضة" المتجدد لضرورة تشكيل حكومة وطنية، لكن لكل طرف شروطه وضماناته التي يريد فرضها على "النداء"، الذي يبدو في زاوية لا مخارج كثيرة لها، ولا خيارات متعددة أمامه، وهو ما يعرفه الجميع.

لكن هذا الأمر ليس المعوّق السياسي الوحيد، فعلى الحكومة أن تكون بالإضافة إلى كل هذا ذات كفاءة وناجحة وقادرة على مباشرة الملفات بسرعة، وعليها أن تعكس صورة الساحة السياسية التونسية ما بعد الثورة أي أن تخلو من الوجوه القديمة، وهو ما سارع السبسي إلى تأكيده في خصوص رئيس الحكومة، الذي يرجّح العكرمي الإعلان عن اسمه غداً الخميس أو الجمعة، معلناً في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه لن يكون من "نداء تونس" على الأرجح.

ويعني هذا التأكيد أن هناك اتفاقاً سياسياً ما، حصل بين "القوى العظمى" في تونس، وهو ما سبق وأكدته "العربي الجديد" بناءً على معلومات من مصادر مقرّبة من هذه القوى، وأكدها أمس القيادي في حركة "النهضة" سمير ديلو الذي أعلن أن حركته لا تمانع تعيين عبد الكريم الزبيدي رئيساً لحكومة ينبغي أن تُشكّل في أقرب وقت ممكن.

كما أن على المنظومة السياسية الجديدة التي يقودها "نداء تونس"، أن تبدأ في نزع الريبة القوية التي عبّر عنها عدد من الشخصيات السياسية والحزبية والمواطنين، من الهيمنة السياسية وتراجع الحريات والمسّ بحقوق الإنسان وحرية الإعلام، وستكون كل حركات الحزب تحت المرصد من قوى سياسية ومدنية.

ويبقى الملف الاقتصادي والاجتماعي من الملفات الهامة والحساسة التي تُطرح على طاولة السبسي، ما يتطلب منه أولاً مخاطبة الناس سريعاً وتهدئة الخواطر الثائرة في الجنوب التونسي والتي امتزج فيها السياسي بالاقتصادي، خصوصاً مع إقفال المنبع الليبي وعدم طرح بدائل حقيقية لقضية التهريب الذي تعيش منه عائلات كثيرة في الجنوب والغرب التونسيين.

كما لا يمكن إغفال تصويت بعض المناطق المحرومة للرئيس الجديد على غرار سيدي بوزيد والقصرين وجندوبة والشمال الغربي المحروم عموماً، وكلها متطلبات لا تحتمل التأخير مطلقاً، على الرغم من الشحّ في الموارد من جهة في ظل تراجع أسعار النفط دولياً، وتراجع الانتاج والتصدير من جهة أخرى.

ويُنتظر من السبسي أيضاً إجراء إصلاحات تشريعية اقتصادية وضريبية مضنية في قانون المالية الجديد، ولكن في الوقت نفسه تتلقى تونس وعوداً بالدعم من بعض المانحين، ويبدو أنه لا غنى عنها على الرغم من مطالبة بعضهم بوضع حد لنزيف المديونية كشرط من شروط المشاركة في الحكومة.

وبينما يقول العكرمي إن على منظومة الحكم الجديدة أن تجدّد الحلم الجماعي لدى التونسيين للعودة إلى العمل وبناء المؤسسات وتحريك آلة الإنتاج، يبقى السؤال الحقيقي حول مدى قدرة التونسي المنهَك على استعادة أحلامه وتجديدها وتقديم المزيد من التضحيات، وهي واحدة من الحقائق الصعبة التي على السبسي أن يواجهها.