أكملت حركة طالبان الأفغانية نصف عام في الحكم، منذ أن سيطرت على العاصمة كابول، بعد أن انهارت حكومة الرئيس السابق أشرف غني، منتصف أغسطس/آب الماضي. وعلى الرغم من جهودها الحثيثة، إلا أن الحركة لم تتمكن إلى الآن من تطبيع علاقات أفغانستان السياسية والدبلوماسية مع العالم، ولا سيما انتزاع الاعتراف بالحكومة التي شكلتها، ورفع التجميد عن الأصول الأفغانية.
كما لا تزال ملفات داخلية، على رأسها الملف الأمني، أحد أهم التحديات التي تواجه حكومة طالبان. فتنظيم "داعش" لا يزال ينشط في شرق أفغانستان، و"جبهة المقاومة الوطنية" المعارضة للحركة، تعلن بين الفينة والأخرى شن هجمات ضد مقاتلي "طالبان".
هذا فضلاً عن تواصل عمليات الاغتيال الغامضة في صفوف رجال الأمن والزعامات القبلية والموظفين في الحكومة السابقة في مختلف مناطق البلاد.
تصر الولايات المتحدة والدول الأوروبية على مسألة تغيير "طالبان" سلوكها
"طالبان" تبحث عن الاعتراف الدولي
شكّلت مسألة كسب الاعتراف الدولي، إحدى أهم المعضلات في وجه حكومة "طالبان" الوليدة، وكان العائق الكبير في هذا الصدد هو وجود فجوة بين رؤية الحركة للحكم، ورؤية دول العالم ومطالبها.
وتصر الولايات المتحدة والدول الأوروبية على مسألة تغيير "طالبان" سلوكها بشأن بعض الملفات، مثل تشكيل حكومة شاملة. وتختلف نظرة الحركة حيال الحكومة الشاملة عن نظرة المجتمع الدولي، إذ تظن الحركة أن حكومتها شاملة لكل الإثنيات والمجموعات العرقية الأفغانية، بينما يرى المجتمع الدولي أن الحكومة الشاملة هي التي تجمع كل الأحزاب والتيارات الفكرية في أفغانستان.
كما أن هناك اختلافاً جوهرياً بين الطرفين بشأن حقوق المرأة. فحركة طالبان تعتبر أن ذلك يقتصر على منح النساء حق التعليم، والعمل في بعض الإدارات كالصحة والشرطة والجوازات، بينما يريد المجتمع الدولي أن يعيد الأمور إلى مجراها السابق، بحيث لا تُفرض قيود على عمل المرأة، فضلاً عن الحفاظ على ما أحرزته النساء من مكتسبات خلال العقدين الماضيين.
ملف وسائل الإعلام هو الآخر محط خلاف بين "طالبان" والمجتمع الدولي الذي يولي اهتماماً كبيراً بهذا الملف، لا سيما بعدما أغلقت الكثير من وسائل الإعلام أبوابها بسبب ضغوطات الحركة، إلى جانب اعتقال العديد من الصحافيين من قبل سلطات "طالبان" لأسباب مجهولة.
وكانت الاجتماعات في العاصمة النرويجية أوسلو في يناير/كانون الثاني الماضي، بين "طالبان" وممثلين عن الولايات المتحدة ودول أوروبية، إحدى أهم المحطات التي سعت "طالبان" لاستغلالها في إطار كسب الاعتراف الدولي.
فقد قام وفد من "طالبان"، برئاسة وزير الخارجية في حكومة الحركة، الملا أمير خان متقي، في الأسبوع الأخير من يناير الماضي، بأول زيارة لمسؤول من "طالبان" إلى أوروبا بعد سيطرة الحركة على كامل التراب الأفغاني.
وقد اعتبر مراقبون تلك الزيارة مهمة وبداية نحو كسر الجليد بين الطرفين، إذ ناقش الوفد مع مسؤولين نرويجيين وممثلين عن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي، قضية الاعتراف بحكومة "طالبان" ورفع التجميد عن الأصول الأفغانية. وعلى الرغم من أن الزيارة لم تسفر عن أي نتائج، إلا أنها مثلت فرصة جيدة لتبادل وجهات النظر بين الطرفين.
كذلك، كانت زيارة وزير خارجية "طالبان" إلى العاصمة القطرية الدوحة في 13 فبراير/شباط الحالي، مهمة للغاية، إذ التقى متقي والوفد المرافق له هناك بممثلين عن أوروبا مرة أخرى، وناقش معهم مستجدات الوضع في أفغانستان وآلية التعامل بين الطرفين في المستقبل.
وبحسب التسريبات، فإن الجانب الأوروبي قدّم حزمة من الشروط للاعتراف بحكم "طالبان"، فيما تعمل الأخيرة على دراسة هذه الشروط وإلى أي مدى يمكنها تلبيتها، وذلك وفق مسؤول رفيع في الحكومة السابقة يعيش حالياً في كابول، وعلى صلة قوية بقيادة الحركة، تحدث لـ"العربي الجديد".
وعلى الرغم من التواصل الملحوظ بين الطرفين، إلا أن كل تلك الجهود لم تؤد إلى الآن إلى ما كانت تتطلع إليه "طالبان"، وهو الاعتراف الدولي بحكومتها، علاوة على رفع التجميد عن الأصول الأفغانية.
باحث أفغاني: المباحثات الأخيرة بين "طالبان" والغرب كانت مثمرة للغاية
وفي هذا الشأن، قال المبعوث الأميركي الخاص إلى أفغانستان توماس ويست، في كلمة له في معهد أميركي في 16 فبراير الحالي، إن واشنطن "تجري مباحثات جادة وصادقة مع طالبان، ولكنها لا تعتزم في الوقت الحالي الاعتراف بحكومتها".
وأشار إلى أن "شروط واشنطن واضحة، وعلى رأسها أن تغيّر طالبان سلوكها، وقبل ذلك الحين لن نعترف بحكومتها".
وإضافة إلى ما أحرزته دبلوماسية "طالبان" من تقدم نسبي في المجال السياسي، تغيّر تعامل واشنطن كذلك إلى حدّ ما، في الملف الاقتصادي، إذ سمحت للبنوك الأفغانية بالتعامل مع البنوك الدولية، وكذلك بتحويل الأموال من وإلى البنوك الأفغانية.
كما أن إدارة الرئيس جو بايدن بدأت تفكر في رفع التجميد عن جزء من الأموال المجمدة، وتعمل على آلية لإيصال الأموال إلى البنك المركزي الأفغاني، وفق ما تشير تقارير عدة.
في السياق، قال الأكاديمي والباحث الأفغاني، مشتاق أحمد هميم، إن المباحثات الأخيرة بين "طالبان" والغرب، ولا سيما المباحثات التي جرت في الدوحة "كانت مثمرة للغاية"، مستشهداً بما قاله أمير خان متقي من أن "العالم على وشك الاعتراف بحكومة طالبان".
واعتبر هميم ذلك "تقدماً لافتاً"، مشيراً إلى أن "العالم ليس أمامه خيار سوى الاعتراف بحكومة طالبان ولو بعد حين، كما أنه لا خيار أمام الحركة سوى التعامل مع العالم والرضوخ إلى بعض مطالبه من خلال التغيير في سلوكها".
ورأى هميم أن "بعض القرارات التي اتخذتها طالبان أخيراً، إيجابية، وستمهد الطريق نحو الاعتراف بحكومة الحركة، ومنها مثلاً الإعلان عن فتح جامعات ومدارس البنات، إلى جانب تعيين ضباط سابقين في الجيش في وزارة الدفاع الأفغانية".
لم تتمكن الحركة إلى الآن من ترتيب أولوياتها حيال قضية النساء
ملف النساء عقبة مهمة بوجه "طالبان"
يعدّ ملف النساء أحد أهم الملفات العالقة بوجه "طالبان"، خاصة أنها منعتهن من العمل فور وصولها إلى الحكم، بينما تشير بعض الإحصائيات إلى أن نسبة النساء في حكومة أشرف غني كانت تصل إلى 25 في المئة.
ومع مجيء "طالبان"، وُضعت قيود صعبة على النساء، في حين أن المشكلة الأساسية تتمثل بوجود آراء مختلفة داخل الحركة حيال قضية المرأة، إذ تتباعد وجهات النظر في هذا الشأن بين العسكريين والسياسيين في الحركة، وهو ما عقّد الملف في وجه صناع القرار في "طالبان".
ولم تتمكن الحركة إلى الآن من ترتيب أولوياتها حيال قضية النساء، فهي ألغت وزارة الشؤون النسائية، ومنعت الموظفات في معظم الدوائر الحكومية من العمل، بالتوازي مع تكرار وعودها بأنها تعمل على إنشاء كيانات خاصة بالنساء، ولكن من دون أي مبادرة جادة في الشأن.
وفي السياق، قالت الناشطة الأفغانية وحيدة أمري، في حديث مع "العربي الجديد"، إن طالبان "فشلت كل الفشل في معالجة ملف النساء"، مضيفةً "يجب أن تعلم الحركة أن الطريق نحو التطبيع مع العالم، خاصة الدول الغربية، سيكون من خلال منح المرأة الأفغانية حقها".
وأكدت أمري أن "الشعب الأفغاني بشكل عام، ونساء هذه البلاد بشكل خاص، قد تغيّرن كثيراً، وبالتالي المرأة لن ترضى بتعامل طالبان الحالي، وعلى الأخيرة أن تتغيّر وتضع خططاً مرنة للتعامل مع نصف مجتمع أفغانستان".
من جهة أخرى، سادت مخاوف جدية عند سيطرة "طالبان" على الحكم، بشأن تعاملها مع عامة شرائح الشعب، وذلك بالنظر إلى سلوكها في تسعينيات القرن الماضي.
وعلى الرغم من أن انتهاكات عدة لا تزال تُمارس على يد عناصر في الحركة، إلا أنه وفق الزعيم القبلي، سيد خالد بادشاه، الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، فإن "الأمور تتحسن رويداً رويداً، وتعامل الحركة أحسن بكثير مما كان يتوقعه الشعب، خاصة مع العرقية الطاجيكية والأوزبكية والأقليات الأخرى، وهو ما أحبط الكثير من المخططات الأجنبية التي كانت تسعى لاستغلال هذا الأمر، ولا سيما أولئك الذين يتربصون بالبلاد من دول واستخبارات المنطقة"، وفق قوله.
مد وجزر في العلاقات بين "طالبان" وباكستان
ثمة معضلة أخرى انفجرت بخلاف توقعات "طالبان"، وهي الأزمة على الحدود مع باكستان، والعلاقات مع إسلام أباد بشكل عام. والأخيرة على الرغم من إصرارها الشديد على أن الاعتراف بحكومة "طالبان" لا مناص منه، ودعوتها المجتمع الدولي إلى إيصال المساعدات الإنسانية إلى أفغانستان، إلا أنها تبدو مستاءة من تعامل الحركة وسلوكها.
فقد كانت إسلام أباد تتوقع من طالبان أفغانستان، أن تتخذ خطوات جادة ضد حركة طالبان الباكستانية وضد الانفصاليين البلوش، غير أن الحركة الأفغانية لم تتجاوب بشأن ذلك، معتبرةً ما يحدث في باكستان أمراً داخلياً.
وكان رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، قد قال في حوار له مع شبكة "سي أن أن" في 13 فبراير الحالي، إن "مسلحين من ثلاثة تنظيمات هي طالبان باكستان، وجيش تحرير بلوشستان، وداعش، يدخلون من الأراضي الأفغانية وينفذون هجمات في باكستان".
لكن وزير الدفاع في حكومة "طالبان"، الملا يعقوب، وهو نجل مؤسس الحركة الملا عمر، رفض هذه الاتهامات بشدة، واعتبرها في حوار مع التلفزيون الوطني "ادعاءات لا أساس لها"، مشدداً على أن الأراضي الأفغانية لن تستخدم ضد أي دولة.
وفي أعقاب ذلك، طلبت باكستان من مجلس الأمن الدولي "ملاحقة أولئك الذين يستهدفون المصالح الباكستانية ويعبثون بأمن البلاد من الأراضي الأفغانية". فقد قال مندوب باكستان في مجلس الأمن، عمر صديقي، أخيراً "إننا طلبنا من مجلس الأمن أن يلاحق الذين يساندون الجهات التي تعبث بأمن بلادنا مالياً ولوجستياً من داخل الأراضي الأفغانية".
لا يزال تنظيم "داعش" ينشط في مناطق شرق أفغانستان
التحدي الأمني ما زال ماثلاً أمام "طالبان"
على الرغم من توقف الحرب التي كانت تقتل يومياً، بحسب بعض الإحصائيات، 200 شخص في أفغانستان قبل سيطرة "طالبان" على الحكم، إلا أن التهديدات الأمنية لا تزال موجودة ولو بوتيرة أقل، وعلى الرغم من تمكن الحركة من استئصال جذور مناوئيها إلى حد كبير.
ولا يزال تنظيم "داعش" ينشط في مناطق شرق أفغانستان، وتحديداً في ولاية ننغرهار، التي كانت تعتبر معقل التنظيم قبل وصول "طالبان" إلى الحكم. وصحيح أن قوة "داعش" قد اضمحلت إلى حد كبير، ولكن التنظيم ما زال موجوداً، ويشن هجمات بين الفينة والأخرى.
فيوم الأربعاء الماضي، شنّ مسلحون من "داعش" هجوماً واسعاً ضد مسلحي "طالبان" في منطقة وزير بمديرية خوجياني، ما أدى إلى مقتل وإصابة العديد من عناصر الحركة. لكن الأخيرة تمكنت خلال 24 ساعة، من الوصول إلى الشخص الذي كان يؤوي عناصر "داعش" داخل منزله، لتشن عملية أدت إلى مقتل أربعة من مسلحي التنظيم، فضلاً عن أسر عدد من عناصر الأخير.
في السياق، قال الزعيم القبلي، فدا محمد، من مديرية أتشين بولاية ننغرهار، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "ما نلاحظه في الوقت الراهن، هو أن طالبان لا تترك الفرصة لداعش كي يقوّي نفوذه، كما أن القبائل لا تريد ذلك، وبالتالي التنظيم لا يمكنه أن يقوّي نشاطه، على الرغم من أن استخبارات في المنطقة تعمل على ذلك، لأنها مستاءة من تعامل طالبان".
أما "جبهة المقاومة الوطنية"، فهي لا تزال نشطة في ولاية بانشير وفي مديرية أندارب بولاية بغلان، وهي تنفذ هجمات ضد "طالبان"، على الرغم من التكتم الإعلامي الكامل حيال هذا الأمر. فـ"طالبان" لا تسمح لوسائل الإعلام بتغطية القضايا الأمنية، في حين أن "جبهة المقاومة" لا يمكنها ممارسة النشاط الإعلامي داخل البلاد.
وفي 19 فبراير الحالي، نفذت الجبهة سلسلة هجمات في ولاية بانشير، اثنتان منها استهدفتا دوريتين لعناصر من حركة طالبان، ما أدى إلى مقتل خمسة منهم، فضلاً عن هجوم صاروخي استهدف مقر الحكومة المحلية في الولاية في مدينة بازرك، وقد أعقب ذلك هجوم مسلح لعدد من المسلحين استمر ساعات عدة، وفق ما أكدته تقارير محلية.
الملا يعقوب: تعتزم الحركة تشكيل جيش من 110 آلاف جندي
تشكيل جيش إسلامي أفغاني
في الأثناء، تولي "طالبان" اهتماماً كبيراً لمسألة تشكيل جيش إسلامي بأيديولوجيات جديدة، قوامها الدين والوطن، ويضم ضباطا سابقين في الجيش أيضاً، وهو ما أكده وزير دفاع طالبان، الملا يعقوب، أخيراً.
وللمرة الأولى، كشف الملا يعقوب عن بعض التفاصيل بشأن هذا الأمر، خلال حوار له مع التلفزيون الوطني، الأسبوع الماضي، قائلاً إن الحركة "خرّجت إلى الآن عشرة آلاف جندي، في حين أن التدريبات مستمرة لـ80 ألفا آخرين".
وأكد أن الحركة "تعتزم في الوقت الراهن تشكيل جيش من 110 آلاف جندي"، مشيراً إلى أن "هناك ضرورة ملحة لتشكيل جيش مستقل". ونوه إلى أن "عدد جنود الجيش سيزيد وفق أوضاع البلاد ونظراً للميزانية".