فلسطين: الانضمام لـ"الجنائيّة الدوليّة" يُغضب الاحتلال

05 يناير 2015
تصبح فلسطين عضواً في المحكمة الجنائية بعد شهرين(فرانس برس)
+ الخط -
بعد أشهر من تلويح القيادة الفلسطينيّة بورقة المحكمة الجنائيّة الدوليّة، تمّ تقديم صكوك الانضمام إليها رسمياً في نيويورك. وفي حين لم تلقَ الخطوة صدى شعبياً فلسطينياً، كما كان مرجوّاً، وواجهته حكومة الاحتلال بتهديدات عدائيّة وخطوات استباقيّة، أولها الاعلان، أول من أمس، عن تجميد أموال عائدة للسلطة الفلسطينية، لم تجد الولايات المتحدة الأميركيّة بدّاً من العزف على عصب المساعدات والتهديد بقطعها عن السلطة الفلسطينيّة عقاباً لها على خطوتها.

وينظر خبراء القانون والمحللون الفلسطينيون بتفاؤل حذر يشوبه الشكّ نحو الخطوة القانونية، مؤكدين أنّ خطوة مماثلة لن تعني شيئاً، على أرض الواقع، إذا افتقدت للرافعة الأساسية وهي الإرادة السياسيّة الفلسطينيّة لمحاسبة المجرمين الإسرائيليين. ويرى هؤلاء أنّ الطريق إلى المحكمة الجنائيّة معبّد بالمعيقات والمغريات والتهديدات معاً، مؤكّدين أنّ الالتحاق بالمحكمة الجنائيّة الدوليّة لا يعني رفع القضايا أمامها. كما يخشون أن يكون الالتحاق من باب الضغط على الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل والمجتمع الدولي، حتى يبادروا إلى حلحلة الجمود في العملية السلميّة، واقناع إسرائيل بالمطالب الفلسطينيّة لإنهاء الاحتلال، بعد أن جرى إجهاض مشروع القرار على منصة مجلس الأمن الدولي، بجهود أميركية، قبل أيام.

وفي حين تبدي أوساط خشيتها من أن تكون القيادة الفلسطينية تبادر إلى عقد مساومات قانونيّة مقابل مكاسب سياسيّة آنيّة، يرى آخرون أنّه لا بدّ من الخروج من دائرة التشكيك الدائمة للقيادة الفلسطينية، التي وفت بما وعدت به، أي الالتحاق بالجنائية الدوليّة في حال عدم نجاح مشروع إنهاء الاحتلال في مجلس الأمن. وتذكّر بأنّ القيادة كانت تحت ضغوط هائلة عربيّة وغربيّة حتى لا تقدم مشروع القرار، كما صرّح أكثر من مسؤول فلسطيني، على غرار صائب عريقات ورياض منصور في الأيام الماضية.

ويرى مدير مؤسّسة "الحق"، شعوان جبارين، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ "هناك إرادة سياسيّة لدى القيادة الفلسطينية لمتابعة موضوع الجنائيّة الدوليّة حتى الخطوة الأخيرة، وهذا ما لمسناه من اجتماع (رئيس دائرة شؤون المفاوضات) صائب عريقات مع المؤسسّات الحقوقيّة اليوم".

وكان رئيس دائرة شؤون المفاوضات، صائب عريقات، قد التقى، يوم السبت الماضي، ممثلين عن المؤسّسات الحقوقيّة الفلسطينيّة في جلسة تشاورية حول ما يترتّب عليهم من جهود وخطوات في ملف الجنائيّة الدوليّة. ويقول جبارين: "في الثاني أو الثالث من آذار/ (مارس) المقبل، ستصبح فلسطين عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، وبعدها سيكون هناك قرار سياسي بإحالة الملفات إليها". ويوضح أنّه "إذا تقاعست السلطة ولم يكن لديها قرار سياسي بإحالة الملفات، حينها ستقوم المؤسسات الحقوقيّة الفلسطينيّة بذلك".

ولم تهدأ حكومة الاحتلال الإسرائيلي منذ توقيع الرئيس الفلسطيني محمود عباس على معاهدة روما، وبموازاة التصريحات العدوانية، كان هناك تحرك قانوني فعلي. ويعزو الخبير في الشؤون الإسرائيلية، عادل شديد، الاجماع الإسرائيلي على الرفض الشديد للخطوة الفلسطينية، إلى "الإصرار على أنّ أي شرعية يمكن أن يحصل عليها الفلسطينيون، يجب أن تكون من خلال المفاوضات مع الإسرائيليين فقط". 
ويؤكّد شديد، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ "السلبية والعدوانيّة الإسرائيلية ترتبط باعتبار أنّ السلطة تجاوزت الخطوط الحمراء التي تم صياغة وتأسيس السلطة من أجلها، حسب النظرة الصهيونية". ويوضح أنّ "انضمام فلسطين إلى الجنائيّة الدوليّة يعني إلغاء ثنائية المفاوضات والاحتكار الأميركي لها، والتوجّه للقانون الدولي لموازنة هذه القوى، ولا سيّما أنّ صاحبة الشرعيات، أي الولايات المتحدة، غير منضمة إلى اتفاقية روما".

من جهته، يعرب الخبير في القانون الدولي الإنساني، رزق شقير، لـ"العربي الجديد"، عن اعتقاده بأنّ "حكومة الاحتلال تضع خطة استباقية لسحب البساط من تحت المحكمة الجنائية في حال انضمام الفلسطينيين إليها من خلال شروعها، أولاً، بإجراء تحقيق خاص بها مستفيدة من حقيقة الاختصاص التكميلي للمحكمة الجنائية، بما يعني حسب قوانين المحكمة، عدم قبول الدعوى إذا كانت تجري التحقيق أو المقاضاة فيها دولة لها ولاية عليها، وكما هو معلوم فإن جميع الجناة يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة".

ويشير شقير إلى أنّه "من المعروف أنّ المحكمة الجنائيّة ليست كياناً فوق الدول أو بديلاً عن القضاء الوطني، إنما الأصل في الاختصاص هو للقضاء الوطني، لذلك تمارس المحكمة اختصاصها في حال تبيّن أنّ الدولة ذات الولاية غير قادرة أو غير راغبة على الاضطلاع بالتحقيق أو المقاضاة، وما يحدث الآن أن إسرائيل تثبت أنها قادرة وتقوم بالمحاسبة".
ويرى شقير في مسارعة "الإعلام الإسرائيلي والمؤسّسات الحقوقيّة الإسرائيليّة إلى الإعلان عن قيام المدعي العام العسكري بفتح تحقيق جنائي في مجريات الهجوم على قطاع غزة وفي عشرات الحوادث، بما في ذلك استهداف مدارس "الأونروا" ومقتل الأطفال على شاطئ غزة في 14 يوليو/ تموز الماضي، رغبة بالقول إنّه قادر على المحاسبة".

ويرى شقير أنّه "على الجانب الفلسطيني أن يثبت أنّ إسرائيل غير راغبة بمحاسبة المجرمين الذين ينتمون إليها، والدليل أن تقرير غولدستون أثبت ارتكاب أفعال ترتقي إلى جرائم الحرب في عدوان إسرائيل على قطاع غزة 2008 ـ 2009، وبعد ست سنوات على هذا العدوان لم تحاسب أحداً بعد، أي أنها غير راغبة بذلك".
ويشكل إهمال دولة الاحتلال لمئات الشكاوى من المؤسّسات الحقوقيّة الفلسطينيّة والإسرائيليّة التي ترصد الجرائم الإسرائيليّة بحقّ المواطنين الفلسطينيين دليلاً إضافياً على عدم رغبة إسرائيل بمحاسبة مجرميها. ولعلّ النقطة الأبرز هي أنّ القيام بالجريمة ضدّ الفلسطينيين، لا يكون على شكل فردي، وإنما من المؤسّسة السياسيّة والعسكريّة الإسرائيليّة، أي أنّها جريمة دولة منظمة وليست فرديّة، والحروب على قطاع غزة، وكلّ جرائم الجيش الإسرائيلي، والاستيطان أكبر الجرائم التي تعكس أنها جرائم تنفّذها الدولة وليس الأفراد.
ويعتبر شقير أنّه "كان الأجدى بالسلطة الفلسطينيّة أن تنضم للمحكمة الجنائية الدولية عام 2012، حين تمّ الاعتراف بدولة فلسطين، وطالبت المؤسّسات الحقوقيّة والقانونيّة السلطة بذلك، لكنّها لم تستجب".
وفي مثال يوضح "إرباك السياسي الفلسطيني لمجرى القانون ومساومته عليه ضد مصلحة الشعب"، وفق ما يوضحه شقير، ما حصل عام 1998 "حين بذلت مفوضة حقوق الإنسان، ماري روبنسون، جهوداً كبيرة لعقد مؤتمر الأطراف السامية لاتفاقية جنيف الرابعة لإلزام إٍسرائيل بتنفيذ القانون الدولي، فما كان من القيادة الفلسطينية إلا أن أوفدت نبيل شعث آنذاك، لتجميد هذه الجهود، لأنّ الفلسطينيين والإسرائيليين كانوا قد تجاوزوا مرحلة الجمود السياسية في ذلك الوقت".
ويخشى شقير، في سياق متّصل، أن "تتمّ المقايضة مرة ثانية، فالانضمام إلى المحكمة الجنائيّة لا يعني رفع قضية"، علماً أنّ مؤتمر الأطراف السامية لاتفاقية جنيف كان قد عقد في 17 من الشهر الماضي، واعتبرته السلطة الفلسطينية نصراً كبيراً لها في المحافل القانونيّة الدوليّة".

ولا يرى المحلل والكاتب عبد المجيد سويلم، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن خيارات واشنطن للضغط على الفلسطينيين كبيرة. ويقول: "لا يمكن لها أن تفعل شيئاً، باستثناء بعض المقايضات وتقليص بعض المساعدات للسلطة أو الضغط على بعض الدول لتقليص المساعدات، وهي مسألة جُرّبت في السابق ولم تنجح، والأمر ذاته بالنسبة لإسرائيل، حيث لا يوجد أمامها سوى قرصنة لأموال الضرائب الفلسطينية وبعض المضايقات الأخرى، التي لن تؤثر على صمود الشعب الفلسطيني".
ويشدّد على أنّ "التراجع عن خطوة التوجّه إلى الجنائيّة الدولية لا يمكن أن يتمّ إلا بوجود بدائل سياسيّة فقط، ولا يمكن تحت طائلة العقوبات الاقتصادية أو الضغوط المالية أن يتم ثني القيادة الفلسطينية عن هذا التوجّه". ويرى أنّه "كان باستطاعة واشنطن تحسين الصيغة التي طرحتها بمعنى مفاوضات لمدة سنة معروفة مسبقاً نتائجها النهائية، وموقّعة بوثيقة من مجلس الأمن وبرعاية من الولايات المتحدة، كبديل للجنائية الدولية".