التمويل الأجنبي: حكم براءة متأخر على خلفية تفاهمات السيسي-ترامب

21 ديسمبر 2018
ماطل السيسي مطولاً قبل تحقيق تعهده لترامب(جايبين بوتسفورد/Getty)
+ الخط -

أغلق النظام المصري باباً طالما سبّب قلقاً وضغوطاً وتوتراً في العلاقة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، بإصدار محكمة جنايات القاهرة، أمس الخميس، حكماً ببراءة جميع المتهمين الـ43 في قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني الأجنبية العاملة في مصر، التي تعود وقائعها إلى عام 2011، بعدما أعيدت محاكمتهم غيابياً لشهر واحد فقط، وذلك بعد أن قضت محكمة النقض، في إبريل/نيسان الماضي، بإلغاء الحكم الصادر ضدهم في عام 2013.

في هذا السياق، كشفت مصادر دبلوماسية مطلعة لـ"العربي الجديد"، أن "إغلاق الملف الخاص بالمتهمين الأجانب والمصريين المرتبطين بالمنظمات الأجنبية في هذه القضية، كان محل تعهّد صريح من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سابقاً، للرئيس الأميركي دونالد ترامب، بناء على ضغوط مرتبطة بأن الحكم الملغى كان قد تضمّن حل وحظر أنشطة المعهدَين الجمهوري والديمقراطي في مصر، وملاحقة عدد من العاملين لصالح الحزبين الكبيرين، رغم السماح لهما بمغادرة مصر، في أول مارس/آذار 2012، وبالتالي استمرار محاكمتهم غيابياً طوال السنوات الماضية".

وأضافت المصادر أن "المفاوضات بين ترامب والسيسي، خلال عامي 2016 و2017، حول أوضاع حقوق الإنسان في مصر، كان من ثوابتها إغلاق هذه القضية نهائياً وتبرئة المتهمين، لكن السيسي أصر على الفصل بين المسار الخاص بالعاملين في المنظمات الأجنبية، والذي صدر الحكم بشأنه أمس، وبين المسار الآخر الخاص بالعاملين في المنظمات المحلية، والذي ما زال بيد هيئة التحقيق التي تواصل، بين حين وآخر، ضم متهمين جدد للقضية، بالتوازي مع استدعاء عدد من المتهمين القدامى من مراكز حقوقية مختلفة، مع استمرار منعهم من السفر والتحفظ على أموالهم. وكان أحدثهم المحامي خالد علي، الذي تم منعه من السفر على ذمة القضية منذ شهرين، في إطار إعداد قائمة اتهام جديدة لا تضم أي متهمين أجانب، تحسباً لإغضاب الدول الغربية".

وسبق أن ذكرت مصادر قضائية لـ"العربي الجديد"، في يونيو/حزيران الماضي، أن "المسار الثاني للقضية الخاص بالمصريين معلّق على قرار من السيسي نفسه، إذ أعد قضاة التحقيق قرار الاتهام، لكن ما يعطل الأمر هو أن اللجنة المركزية التي شكّلها السيسي أخيراً لتحسين صورة مصر في الخارج، قد أصدرت توصياتها باستمرار التحقيق وعدم إحالة المتهمين للمحاكمة حالياً، على ضوء تقارير دبلوماسية تفيد باستمرار ورود تساؤلات وانتقادات من دوائر غربية لملف العمل الأهلي والحقوقي في مصر، والذي كان وما زال من الملفات المثيرة للمتاعب في علاقة السيسي بالغرب".

وأشارت المصادر الدبلوماسية إلى أن "السيسي والمسؤولين الدبلوماسيين المصريين الذين انخرطوا في مناقشات مع الخارجية الأميركية بشأن هذا الملف، كان حديثهم صارماً ومؤكداً، بأن مسؤولي المنظمات الأجنبية، بما في ذلك التي تنتمي لدول أوروبية، سوف يحصلون جميعاً على البراءة".

ويعكس مسار هذه القضية منذ البداية تدخلاً حكومياً فجاً في عمل القضاء المصري، فالقضية بدأت في الأساس بقرار من المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي كان يرأسه وزير الدفاع الأسبق المشير حسين طنطاوي، بناء على تقرير وضعته وزيرة التعاون الدولي السابقة ومستشارة السيسي الحالية للأمن القومي، فايزة أبو النجا. وتم تكليف وزير العدل الأسبق، محمد الجندي، بانتداب قاضيين للتحقيق في المخالفات المزعومة للمنظمات المحلية والأجنبية العاملة في مجال حقوق الإنسان، بالتوازي مع مداهمة جميع المنظمات الأجنبية في ديسمبر/كانون الأول 2011.

وبعد شهرين فقط من انتداب قاضيي التحقيق، أمرا بإحالة 43 متهماً للمحاكمة، لكن وقبل بدء المحاكمة رسمياً تدخّل رئيس محكمة استئناف القاهرة الأسبق، عبد المعز إبراهيم، وأحال الأوراق إلى دائرة غير مختصة واستصدر منها حكماً بإخلاء سبيل المتهمين الأجانب فقط والسماح لهم بالسفر، فغادروا القاهرة على متن طائرة أميركية خاصة، في أول مارس/آذار 2012. وظلّ المتهمون المصريون وحدهم في القضية التي استمرت جلساتها حتى صدر حكم إدانة جميع المتهمين فيها في يونيو 2013.


وعلى الرغم من تقدّم المتهمين المصريين والعرب بطعون على الحكم، في شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب 2013، إلاّ أن محكمة النقض لم تنظر القضية إلا في إبريل/نيسان 2018، أي بعد فترة طويلة من الشد والجذب بين القاهرة وواشنطن حول ملف حقوق الإنسان، بما يشمله من مستقبل المتهمين في تلك القضية، وما ارتبط به من قرار تعليق جزء من المساعدات السنوية لمصر في أغسطس 2017. وقضت المحكمة حينئذ بإلغاء حكم الإدانة وإعادة محاكمة المتهمين جميعاً، فتم ذلك بدءاً من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، مع عدم استماع المحكمة برئاسة المستشار محمد علي الفقي إلاّ لمرافعة الدفاع، ولم تستمع إلى شهود أو خبراء، مكتفية بذلك لحجز القضية ثم إصدار حكم البراءة.

وأصبحت مقاضاة قيادات المنظمات غير الحكومية المصرية المستقلة، على خلفية اتهامات مرتبطة بنشاطاتهم في مجال حقوق الإنسان، تشكل خطراً وشيكاً على استمرار عمل تلك المنظمات في مصر؛ فعلى مدى الأعوام الثلاثة الأخيرة، أصدر قضاة التحقيق في القضية 173 لسنة 2011 المعروفة إعلامياً بـ"قضية التمويل الأجنبي"، أوامر جديدة بالمنع من السفر بحق حقوقيين مصريين. ونالت تلك الإجراءات من 12 منظمة مصرية حقوقية مستقلة على الأقل، ما بين قرارات بالمنع من السفر وأوامر بتجميد الأموال واستدعاء للعاملين في تلك المنظمات ومديريها، بالإضافة إلى قرارات بإغلاق بعضها.

وبناءً على تلك القرارات، ارتفع إجمالي الحقوقيين الممنوعين من السفر على خلفية القضية إلى 12 حقوقياً وحقوقية، فضلاً عن استدعاء 5 آخرين من العاملين في منظمات حقوق الإنسان للتحقيق، ليصبح إجمالي المطلوبين للتحقيق بشأن نشاطهم الحقوقي 17 مدافعاً ومدافعة.

وفي سبتمبر/أيلول 2014، أدخل السيسي، تعديلات على قانون العقوبات؛ تشدد العقوبة على تلقي الأموال من مصادر أجنبية بهدف "الإضرار بالمصلحة القومية". وإزاء الشجب الدولي لهذه التدابير، تراجعت الحكومة عن قرارها القاضي بالحلّ الفوري لسائر المنظمات التي تنفذ أنشطة متصلة بالمجتمع المدني، من دون أن تكون مسجلة في أواخر عام 2014، ولكنها عادت من جديد في تنفيذ تلك التدابير، ولكن هذه المرة بشكل مبطّن قانونياً وأقلّ وضوحا.

وعن الاتهامات الواردة في ملفات القضية، فإنها جاءت بناءً على المادة 78 من قانون العقوبات التي تنص على "يعاقب بالسجن المؤبد كل من حصل على أموال من الخارج، بغرض ارتكاب عمل ضار بالمصالح القومية أو باستقرار السلام العام أو استقلال البلاد ووحدتها أو القيام بأي من أعمال العدو ضد مصر أو الإضرار بالأمن والنظام العام".

ومنذ نحو عامين، أعادت الحكومة المصرية، فتح القضية رقم 173 لسنة 2011، المعروفة إعلامياً باسم "قضية تمويل المجتمع المدني"، والتي بموجبها تم استدعاء العديد من العاملين في منظمات غير حكومية لحقوق الإنسان والتحفظ على أموالهم ومصادرة ممتلكاتهم ومنعهم من السفر خارج البلاد.

يذكر أن منظمات المجتمع المدني التي شملتها التحقيقات في القضية منذ عام 2011، يصل عددها إلى نحو 41 منظمة تلقت المنح الأميركية، بالإضافة إلى 4 منظمات أخرى تلقت منحاً وتمويلاً غير أميركي. وتخشى المنظمات في مصر، من تطبيق المادة 78 من قانون العقوبات عليهم، وتعديلاتها الصادرة في 23 سبتمبر/أيلول 2014، لما يحيط بها من مصطلحات قانونية واسعة ومطاطة كـ"النظام العام والسلم العام"، والتي تحدثت عن "كل من طلب لنفسه أو لغيره وقبل أو أخذ ولو بالواسطة من دولة أجنبية أو ممن يعملون لمصلحتها أو من شخص طبيعي أو اعتباري أو من منظمة محلية أو أجنبية أو أية جهة أخرى لا تتبع دولة أجنبية ولا تعمل لصالحها، أموالاً سائلة أو منقولة أو عتادا أو آلات أو أسلحة أو ذخائر أو ما في حكمها أو أشياء أخرى أو وعد بشيء من ذلك بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها أو سلامة أراضيها أو القيام بأعمال عدائية ضد مصر أو الإخلال بالأمن والسلم العام".