بدأ العام الجاري في فلسطين مع إصدار الرئيس محمود عباس المرسوم القاضي بإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية بالتتابع لا التزامن، كما مع رحيل الرئيس دونالد ترامب عن البيت الأبيض، والشعور الفلسطيني بالانتصار في مواجهة "صفقة القرن" التي أزيحت، ولو بشقها السياسي المعلن عن جدول الأعمال، إلا أنّ الوضع ساء أكثر للأسف بنهاية العام، حيث تعمّق الانقسام أكثر فأكثر بموازاة التعايش الفلسطيني الرسمي مع التطبيع العربي الإسرائيلي، والاتفاقيات الإبراهيمية التي كانت ضمن نفس الحزمة مع "صفقة القرن".
إذن بدأ العام الموشك على الرحيل مع قرار الرئيس محمود عباس إجراء الحزمة الانتخابية الكاملة بالتتابع لا التزامن كما أرادت "حماس" والفصائل المتحالفة معها، بحيث تجري الانتخابات التشريعية أولاً في مايو/ أيار ثم الرئاسية في يوليو/ تموز، وأخيراً انتخابات أو إعادة تشكيل المجلس الوطني "برلمان المنفى" في أغسطس/ آب، إلا أنّ المياه الراكدة التي حرّكها حجر المرسوم الانتخابي الرئاسي كشفت ليس فقط عن توق الفلسطينيين لصناديق الاقتراع والتغيير الديمقراطي، وإنما عن مدى الانقسام، بل التشظي، داخل حركة "فتح" إثر تشكيل ثلاث قوائم انتخابية برلمانية، والاستعداد لمنافسة رئاسية أيضاً مع محمود عباس الذي فهم أن لا فرصة له ولسلطته بالفوز، وأنّ الشارع الفتحاوي والفلسطيني يتحرّك، بل يموج في الحقيقة، بعيداً عنهم، لذلك بادر إلى إلغاء الانتخابات بحجة عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس المحتلة، رغم الكتلة التصويتية الفلسطينية الهائلة التي رأيناها خلال هبّة الشيخ جراح وباب العامود في إبريل/ نيسان بالمدينة المقدسة.
بعد ذلك مباشرة وفي مايو/ أيار اندلعت معركة "سيف القدس"، حيث نجحت غزة في دحر العدوان، مع تأكيد إضافي على إمكانية مواجهة إسرائيل عسكرياً بل وهزيمتها، كما رأينا في محطات تاريخية مثل "معركة الكرامة"، لكن تم الذهاب بعيداً جداً إلى استنتاجات خاطئة تضمنت القناعة بقدرة الفلسطينيين وحتى غزة وحدها على فعل ذلك، وهو استنتاج يخالف المنطق والواقع والتاريخ والجغرافيا، وساهم للأسف ضمن أمور أخرى في تدهور الأوضاع أكثر في غزة لا تحسينها.
ضمن استنتاجات الهبّة والمعركة، ولكن إسرائيلياً وأميركياً، جرى تحديث خطة السلام الاقتصادية التقليدية لليمين الإسرائيلي عبر تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الضفة بديلاً عن الأفق والحل السياسي، كما في غزة للحفاظ على التهدئة ومنع انفجار الأوضاع من جديد فيها.
إلى ذلك شهد العام المنصرم عودة النظام المصري إلى المشهد الفلسطيني، واستئناف وساطته وفق خريطة طريق أميركية وتحت السقف الإسرائيلي، ولعل أبلغ تعبير عن حصيلة الدور المصري، إضافة إلى بروباغندا إعادة الإعمار الدعائية، ما قاله القيادي في "الجبهة الشعبية" جميل مزهر، ومفاده بأنّ ما يعرضه الوسيط المصري هو الهدوء مقابل الغذاء، ما يمثل تماهياً خطيراً مع خطة وزير الخارجية الإسرائيلي يئير لبيد لغزة التي تحمل نفس العنوان، وللمفارقة فهي نفس المعادلة التي نراها ولو بتحديث ما في الضفة الغربية أيضاً.
هبّة القدس ومعركة سيفها ومجمل تطورات العام، بما في ذلك الهروب المتعمد والمنهجي من الحزمة الانتخابية الكاملة، أكدت حقيقة أنّ القيادة الفلسطينية الحالية باتت غير ذات صلة بالأحداث والواقع، وبالتالي ضرورة رحيلها وانتخاب قيادة شابة جديدة من أجل إدارة مختلفة للصراع تلحظ المقاومة بكافة أشكالها، خاصة الشعبية منها، وتحديداً في ساحة المقاومة المركزية، أي الضفة الغربية، بما فيها القدس طبعاً.
أحداث العام 2021 أكدت أن القيادة الفلسطينية الحالية باتت غير ذات صلة بالواقع، وبالتالي ضرورة رحيلها
انتهى العام للأسف مع تعميق الانقسام أكثر، كما قال عضو المكتب السياسي لـ"الجبهة الشعبية" كايد الغول، وبات الوضع الفلسطيني أكثر سوءاً، حسب تعبير عضو المكتب السياسي لـ"حماس" حسام بدران، إثر إزاحة الانتخابات وحتى الحوار الجدي لإنهاء الانقسام عن جدول الأعمال، والقبول وإن بدرجات متفاوتة أو على الأقل التساوق مع أفكار تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للفلسطينيين على المدى المنظور دون أفق سياسي واضح لا في الضفة الغربية ولا حتى في غزة، حيث يتعلّق الأفق هنا برفع وحتى تخفيف الحصار وإعادة الإعمار، ولو لما دمرته الحرب الأخيرة من ممتلكات خاصة وعامة، لا إعادة إعمار غزة بالمعنى الدقيق والشامل للمصطلح، العملية التي تحتاج خمسة مليارات دولار على الأقل ومدى زمنياً لا يقلّ عن خمس سنوات أيضاً.
بدأ العام الجاري أيضاً مع رحيل الرئيس دونالد ترامب عن البيت الأبيض، وشعور الفلسطينيين رسمياً وشعبياً بالرضى وحتى الزهو والفخر لإسقاط "صفقة القرن"، رغم ضغط الولايات المتحدة الأميركية وخضوع دول عربية مركزية لها، وإزاحة الشق السياسي منها الذي لحظ ضمّ إسرائيل ثلث الضفة الغربية وإقامة حكم ذاتي موسع تحت عنوان فلسطين الجديدة، إلا أنّ العام انتهى بتعاطي مختلف من قيادة السلطة التي عمدت في سياق استعادة شرعيتها الداخلية المنهارة للانطواء تحت جناح المنظومة السياسية العربية الرسمية، والتساوق بالتالي مع الاتفاقيات الإبراهيمية وتطبيعها، بما في ذلك الانفتاح على الإمارات، والمشاركة في معرض "إكسبو دبي 2020" إلى جانب إسرائيل، بل وزيارة مدير المخابرات ماجد فرح للجناح الفلسطيني ولقاؤه شخصيات إماراتية رفيعة منخرطة في التطبيع الثنائي والإقليمي مع إسرائيل، من أجل تخفيف ضائقتها المالية واستعادة جزء من شعبيتها المفقودة، عمدت السلطة أيضاً إلى التعاون الاقتصادي مع الأردن، ولكن من خلال المحددات الإسرائيلية وتحت سقف اتفاق باريس الاقتصادي سيئ الصيت، وبالتأكيد ضمن الواقع الحالي وبعيداً عن أفق سياسي جدي، بل والإقرار ضمنياً بالتطبيع الأردني الشامل مع إسرائيل الذي توّج بصفقة "الكهرباء مقابل الماء" بمشاركة الإمارات بصفتها راعي وعرّاب الاتفاقيات الإبراهيمية.
ثمة معطى مهم جداً حصل خلال العام المنصرف لا بد من الاستثمار فيه كما ينبغي، خلال العام بل الأعوام القادمة، يتمثل بتصديق وتقبّل الرواية الفلسطينية من قبل قطاعات شعبية وإعلامية واسعة في العالم وحتى في الغرب نفسه، هبّة القدس وبدرجة أقل معركة سيفها ساهمت في ذلك طبعاً.
وفي هذا السياق لم يكن غريباً أن تضع مجلة "تايم" منى الكرد وشقيقها محمد ضمن المائة شخصية الأكثر تأثيراً في العالم، لنجاحهما في ترويج الرواية والمظلومية الفلسطينية بصدق وبراءة وواقعية، أيضاً في إشارة غير مباشرة لنا على الأساليب الأكثر نجاعة والأقل كلفة التي يجب أن نستخدمها لإدارة الصراع مع إسرائيل.
الأجواء المتمثلة بتقبّل الرواية والمظلومية الفلسطينية تبّدت كذلك في تصاعد دعوات مقاطعة إسرائيل، وعلى كل المستويات السياسية والاقتصادية والقضائية والإعلامية والفنية، لتصل إلى الكونغرس الأميركي، وحتى إلى هوليوود، تلك الأجواء التي لم ينل منها بالتأكيد القرار البريطاني المجحف والظالم بتصنيف حركة المقاومة الإسلامية "حماس" "إرهابية".
انتهى العام كما العادة بعناد أسطوري معتاد من الشعب الفلسطيني من الشيخ جراح وجنين إلى غزة ولندن ولاهاي، حيث الأجيال الثانية بل الثالثة والرابعة لم تنس أو تستسلم بعد موت الجيل الأول، ولا تزال تعتبر فلسطين كل فلسطين ملكاً لها من رفح إلى الناقورة ومن النهر إلى البحر.