المواجهة بين الشارع والسلطة في أميركا: التراجع متعذّر والحسم مستبعد

07 يونيو 2020
شهدت واشنطن أكبر وأهم تظاهرة (أستريد ريكن/Getty)
+ الخط -
بعد 12 يوماً على مقتل الأميركي الأسود جورج فلويد، ما زالت ردة الفعل العارمة في الشارع الأميركي على زخمها وأكثر. تظاهرات السبت في المدن، فاقت سابقاتها في الحجم والتنوع والإصرار على المحاسبة والتصحيح "لتحقيق العدالة الاجتماعية".
وشهدت واشنطن أكبر وأهم تظاهرة، إذ تحولت العاصمة الأميركية إلى ساحة التحدي الأساسية بين الشارع والسلطة. وبالتحديد بين الرئيس ترامب الذي يراهن على الحل الأمني، وبين حركة الاحتجاج الواسعة التي تراهن على أحقية الإصلاحات الكبيرة والتشبث بضرورة إنجازها.

المظاهرة الحاشدة التي شارك فيها ما يزيد على 10 آلاف، حسب التقديرات، والتي خلت لها دائرة واسعة مجاورة للبيت الأبيض، جرت في ظل تراجع ملحوظ للحضور الأمني العسكري نسبة للأيام السابقة، ما عدا عند المنافذ والتقاطعات المقفلة المؤدية إلى حديقة لافاييت المتاخمة للبيت الأبيض الذي بقي محيطه القريب أشبه بقلعة محصنة.

كما تميزت بمشاركة واسعة، بل غالبة من غير السود، خاصة من الأميركيين البيض. وفي ذلك ليس فقط رسالة تضامن ضد القمع، بل أيضاً ضد الغبن والخلل الذي يطول فئات عديدة من المجتمع الأميركي. وفي ذلك تطور لافت لما ينطوي عليه من صحوة تربك أصحاب القرار عشية الانتخابات.

وزاد من أهمية تظاهرة واشنطن أنها تأتي في ظلّ مواجهتين بين المسؤولين متفرعتين عنها: واحدة علنية حول الصلاحيات الأمنية بين البيت الأبيض وبين رئيسة بلدية العاصمة ماريال باوزر. والثانية خلف الستار ولو أنها لم تعد سرية، بين البيت الأبيض والبنتاغون حول مشروعية وجدوى الاستعانة بالقوات العسكرية لإخراج المحتجين من الشارع. باوزر، وهي من الأميركيين السود وشاركت في التظاهرة، رفعت حظر التجول في العاصمة عشية التطاهرة الكبيرة والتي شاركت فيها وطالبت كأعلى سلطة في المدينة، الرئيس، بإخراج القوات العسكرية التي استقدمها لمواجهة المتظاهرين.

الرئيس رفض التجاوب، على اعتبار أنه القائد العام للقوات المسلحة وبإمكانه القيام بهذه الخطوة لحماية العاصمة الفيدرالية من دون استشارة أحد. ردت بإجراءات تنظيمية لا تخلو من التحدي ووقفت إلى جانب الشارع الذي حظى أيضاً بشحنة من الدعم وإن بشكل غير مباشر، من خلال موقف البنتاغون والعسكريين إجمالاً ضد تكليف الجيش والقوات المسلحة بمهمات أمنية. قضية أثارت ضجة واعتراضات كبيرة وتسببت في مشكلة بين البيت الأبيض ووزارة الدفاع التي أصرت على سحب القوة. ويبدو أنه جرى تجميد تنفيذ الانسحاب إلى غد الاثنين كما تردد، لحفظ ماء الوجه.

هذه الخلافات والاشتباكات بين المسؤولين أضعفت موقف البيت الأبيض، الذي لم يحظ بالرضى، حتى لدى معظم الجمهوريين في الكونغرس، وتحديداً في مجلس الشيوخ، خاصة استعراض القوة الذي قام به يوم الاثنين الماضي والذي انتهى بصورة أمام الكنيسة المجاورة برفقة وزير الدفاع ورئيس هيئة الأركان.

المبادرة الآن مع الانتفاضة. التضامن معها متزايد. 67% من الأميركيين ضد تعامل الرئيس مع قضية جورج فلويد. التأييد لزج القوات المسلحة في مواجهة مظاهرات سلمية يكفلها الدستور، محصور بقاعدته الانتخابية وأنصاره في الإعلام وقلة قليلة من الكونغرس. والمشكلة مستمرة وبكثير من التحدي المتبادل.


كلا الطرفين في غير وارد التراجع عن مساره. والحسم بهذا الاتجاه أو ذاك لا تبدو شروطه متوفرة حتى الآن. وبذلك، يتجه الوضع إلى مأزق مفتوح على المزيد من التعقيد، خاصة وأنه صار جزءاً من أزمة مركّبة، صحية اقتصادية طاحنة. الكونغرس يجانب الصمت إجمالاً ولو مع التذمر المكبوت. حتى محاولاته المتواضعة مثل استصدار تشريع إصلاحي لممارسات الشرطة، عجز عن المرور بسبب رفض الجمهوريين. ولهذا كثيراً ما تتردد هذه الأيام مقولات من نوع أن "أميركا في أزمة (ثلاثية) مستعصية" وأن الديمقراطية فيها "تتآكل" وعوامل "حربها الأهلية الثقافية" تتتنامى. والخشية أن الانتخابات القادمة قد تفاقم من هذه الظواهر.