لكن يبدو أن طريقة الاستثمار في الكوارث نفسها ما تزال قائمة إلى اليوم، عبر كافة الجهات المُسيطرة على الجبهات اليمنية. منظمة أطباء بلا حدود أعربت عن قلقها العميق من انتشار وباء كورونا في اليمن، وأنه من المستحيل معرفة المدى الكامل لانتشاره في البلاد، نظراً للقدرة المحدودة على إجراء الفحوصات على مدى البلاد. في الوقت نفسه، كانت آلة الحرب تستعيد حركتها في مختلف الجبهات، على اتساع الجغرافيا اليمنية، وهو ما استدعى دق جرس الإنذار من الأمم المتحدة، بمختلف وكالاتها. وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك قال إن "الوقت بدأ ينفد". وأوضح، في تعليقه على بداية اجتياح فيروس كورونا للأراضي اليمنية، خلال مداخلة عبر دائرة تلفزيونية أمام أعضاء مجلس الأمن منتصف الشهر الماضي، أن هذه الجائحة "تقدم فرصة فريدة لتحقيق السلام، بعد أن عانى ملايين اليمنيين من سنوات الحرب والحرمان". واعتبر أنه "يجب أن تحفز جائحة كورونا العملية السياسية، لا سيما أن الحرب، التي دامت أكثر من خمس سنوات، أدت إلى تدهور شديد في البنية التحتية الصحية، ومن الممكن أن ينتشر الفيروس بشكل أسرع وعلى نطاق أوسع، وبنتائج مميتة أكثر في اليمن".
لكن ما حدث على الأرض كان مختلفاً. ضربت كارثة السيول مدينة عدن، فأعلن "المجلس الانتقالي الجنوبي"، المدعوم إماراتياً، بعدها بأيام ما يسمى بـ"الإدارة الذاتية لمحافظات الجنوب". بدأ عدّاد ضحايا الأوبئة مثل فيروس كورونا الجديد، والمكرفس (شيكونغونيا) وحمى الضنك والملاريا في المدينة بالارتفاع جراء الوضع الصحي المتردي، فتفجر الموقف العسكري على نحو مفاجئ في أبين المجاورة بين القوّات التابعة للحكومة اليمنية والانفصاليين.
من جهتها لم تترك جماعة "أنصار الله" (الحوثيين) فرصة انشغال القوّات اليمنية بالمواجهات الدائرة جنوباً، وتقف موقف المتفرج، حيث ذهبت لمواجهات جديدة في منطقة البيضاء، ومع قبائل المنطقة نفسها. والمعروف أن لا علاقة طيّبة تجمع بين "أنصار الله" وقبائل البيضاء، وعلى وجه الخصوص مع فكرة الإمامة التي تحملها هذه الجماعة. وكان كبار مشايخ قبائل البيضاء أطلقوا معارك كبيرة من أجل الانتصار للجمهورية، في مواجهة العناصر الموالية لفكرة الإمامة منذ ثورة العام 1962 في شمال اليمن. لكن يبدو أن المسألة تغيّرت الآن، إذ تقف قبائل البيضاء نفسها بقيادة ياسر العواضي، وهو شخصية ملتبسة وكان لوقت طويل الذراع الإعلامية الكبرى للرئيس الراحل علي عبد الله صالح وأحد الذين كانوا على القرب منّه حتى وقت قريب من يوم مقتله على يد "أنصار الله". واليوم ظهر العواضي مطالباً بثأر إحدى المواطنات التي سقطت بنيران عناصر تابعة للحوثيين.
وتبدو البلاد محاصرة أكثر من أي وقت، من أقصى شمالها إلى جنوبها، بالمعارك العسكرية والأوبئة والكوارث الصحيّة. في هذا السياق، قال الصحافي عبد القادر عبد الله سعد، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "الوضع في اليمن تنطبق عليه مقولة السفينة تغرق وقوارب النجاة تحطمت. ست سنوات أهلكت ودمرت البنى التحتية في اليمن، خصوصاً القطاع الطبي، ليأتي فيروس كورونا، إلى جانب الحميات والأوبئة الأخرى، ليزيد من معاناة اليمنيين ويفتك بهم". وأوضح سعد، المُقيم في صنعاء، أن "الأوبئة تحصد الأرواح، ولا وجود لأطباء في المستشفيات ومراكز العزل. وفي الوقت الذي تناشد فيه دول العالم الجميع إيقاف الحرب والاهتمام بالجانب الصحي وإنقاذ المرضى، تفتح الأطراف المعنية جبهات قتال ومواجهات جديدة... وضحايا جددا".
لكن الصحافي سامي غالب، وهو رئيس تحرير جريدة "النداء" المتوقفة عن الصدور، قال، في حديث مع "العربي الجديد": "الأكيد أن الأطراف المنخرطة في الحرب في اليمن استثمرت في الكارثة الراهنة (كورونا). الرياض سارعت في وقت مبكر إلى عرض هدنة على الحوثيين بسبب احتمالات انتشار كوفيد 19 في اليمن، لكنها وقفت متفرجة (وفِي الخفاء) داعمة للحرب الداخلية بين حكومة (الرئيس عبدربه منصور) هادي والمجلس الانتقالي في عدن"، وفي زاوية أُخرى "يظهر الحوثيون في مناطق سيطرتهم أنهم تكتموا على انتشار الفيروس لاعتبارات تتعلق بالجباية (تحصيل أموال) أساساً، ولكن أيضاً لتقديم صورة دعائية عن الفرقة الناجية، التي يحميها الله من شرور الفيروس الذي تفشى في مناطق خصومهم".
وبشأن الحالة في عدن، قال غالب إن الأمور تبدو مأساوية جراء تفشي عدة أوبئة لحظة استعار حرب احتكار التمثيل في الجنوب، و"المفجع أن الطرفين استخدما الفيروس أداتياً في حربهما، الحكومة بمحاولة استعادة عدن لإنقاذ سكانها من الوباء، والانتقالي بفرض سلطته الإجرائية على السكان بدعوى حمايتهم". ولفت إلى أن "الحرب في اليمن هي حرب أهلية محلية، وإقليمية. يمكن الإمساك ببعض أسباب هذا التفلت لدى الأطراف المحلية من مسؤوليتها تجاه السكان، من خلال توصيف الحرب أولاً، ثم استكناه (تريث) كل طرف منخرط فيها. فهي حرب داخلية أساساً بين جماعات عصبوية في الغالب، عقائدية وجهوية، يتسم بعضها بالاصطفائية، بحيث لا يكاد، وهو في موقع المحتكر للموارد والمؤمن بفاعلية العصبة والتضامن داخلها، يعمل حساباً للناس العاديين الذين ينهشهم الجوع وتفتك الأوبئة بهم".
من جهته، قال الباحث صادق القاضي، في حديث مع "العربي الجديد"، إن ما هو مؤكد أن "القضية الجنوبية" تتمدد وتتغول باضطراد على حساب "القضية اليمنية" المركزية، المتمثلة بإسقاط الانقلاب الحوثي واستعادة الدولة والشرعية. وأضاف أن "هذا قد يعني إدانة أطراف عديدة مناوئة للشرعية، على رأسها "المجلس الانتقالي" كسلطة أمر واقع، نصّبت نفسها بنفسها ممثلة للجنوب، وهو كذلك. غير أن تغول القضية الجنوبية هو نتيجة أكثر منه سبباً في هذا السياق. لا شك أن الحروب التي تدور اليوم في الجنوب سببها فشل الشرعية في استعادة الشمال، والمعارك التي تهدف للوصول إلى عدن سببها عجز هذه الشرعية عن الوصول إلى صنعاء". وتابع القاضي، وهو باحث في مركز البحث التربوي في صنعاء، أن "هذا ليس كل شيء في ما يتعلق بالمسؤولية التي لم تعد تقتصر على الجانب السياسي، في ظل الأوضاع الإنسانية والصحية الكارثية الراهنة التي تعيشها المناطق الجنوبية".
كل هذا في حين لا تحركات فعلية على الأرض من أجل إنقاذ الناس في مدينة عدن نفسها، أو على الأقل إجراء عملية مسح وإزالة لتوابع وآثار السيول التي هجمت على المدينة وما تزال آثارها قائمة إلى اليوم. وفي السياق، شدد القاضي على أن عدن بالذات مدينة مثخنة بالحرب، ومنكوبة بكارثة فيضان داهمتها قبل أسابيع، ومنخورة بعدد من الأوبئة الفتاكة، على رأسها فيروس كورونا. وقال إن "الناس يموتون هناك بالعشرات والمئات كل يوم. صور الجنازات الجماعية للضحايا والصفوف الطويلة للقبور التي تحفر في كل وسائل الإعلام، والتعازي أغرقت مواقع التواصل الاجتماعي". وأوضح أن كل هذا يحدث في ظل إصرار "الشرعية" على خيار الحرب في حل مشكلتها مع "المجلس الانتقالي"، وإصرار هذا الأخير على خيار التكتم على انتشار الأوبئة. ما يجعلها أكثر استفحالاً. وقال "عدن مدينة محاصرة عسكرياً، ومكبلة ذاتياً، ومستهدفة من قبل الإخوان، وضحية لتدني أو انعدام الضمير لدى جميع هذه الأطراف المتواطئة على قتل أبنائها بالنيران في جبهات المعارك، أو بالأوبئة في الشوارع والمستشفيات والبيوت".