فوجئ الرأي العام والطبقة السياسية في تونس بدعوات "فيسبوكية" يطالب أصحابها بثورة جديدة في البلاد، وبرحيل حكومة إلياس الفخفاخ التي لم يمرّ على تأسيسها سوى شهرين، وحلّ البرلمان. دعوات لم تعكس الواقع السياسي الراهن، بقدر ما عبّرت عن رغبة أطراف محدودة ظنّت بأنّ الظروف الصعبة التي تمر بها تونس في ظلّ مخاطر فيروس كورونا يمكن أن تساعد على إرباك النظام، وفرض أجندة سياسية جديدة. كما ظنّ الداعون إلى "التغيير" أنّ أفضل أسلوب لتحقيق ذلك هو التوجه نحو البرلمان، والتحريض ضدّ حركة "النهضة" التي يتربع رئيسها راشد الغنوشي على أعلى هرم مجلس النواب، وبالتالي خلق "حركة احتجاجية" يمكن تحويلها إلى كتلة غاضبة من شأنها أن تدفع الفخفاخ إلى الاستسلام والاستقالة. وأمام الفراغ وتعطّل أعمال السلطة التشريعية، سيجد رئيس الجمهورية قيس سعيّد نفسه مضطراً لحلّ البرلمان والدعوة إلى تنظيم انتخابات سابقة لأوانها.
وأعلنت النيابة العامة في تونس، الأربعاء الماضي، أنها فتحت تحقيقاً في "دعوات تحريضية"، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ضدّ بعض مؤسسات الدولة. وتناقل رواد بمواقع التواصل في تونس، خلال الفترة الأخيرة، وثيقة منسوبة لجهة تُسمي نفسها "هيئة الإنقاذ الوطني"، دعت فيها إلى "حل البرلمان والأحزاب، والمطالبة بمحاسبتها، وتعليق العمل بالدستور، ومراجعة قوانين ما بعد الثورة، وإعادة صياغتها والمصادقة عليها باستفتاء شعبي". كذلك، نشر نشطاء مقربون من الحزب "الدستوري الحر" المعارض بقيادة عبير موسى، دعوات لحل البرلمان، والاعتصام في منطقة باردو، حيث مقر البرلمان، قبل أن تتبرأ رئيسة الحزب من تلك الدعوات. كما نشر نشطاء من أقصى اليسار دعوات إلى الثورة.
واجهت حكومة الترويكا خلال عام 2013 موجة غضب عارمة غذّاها اغتيال أول، ذهب ضحيته الوجه اليساري البارز شكري بلعيد، واغتيال ثان استهدف الناشط القومي محمد البراهمي. تمّ ذلك في ظلّ أوضاع اقتصادية واجتماعية صعبة جعلت الحكومة يومها غير قادرة على الصمود مطولاً، ما دفع بحركة "النهضة" للقبول باقتراحات الرباعي (أربع منظمات من المجتمع المدني التونسي رعت عام 2013 حواراً وطنياً بين الحكومة وجبهة أحزاب المعارضة)، وهو ما أخرج البلاد من مأزق كاد أن يؤدي إلى انهيار الدولة.
اليوم تختلف الصورة والمعطيات. فعلى الرغم من أنّ "النهضة" بقيت العنصر الأساسي المشترك بين المرحلتين، إلا أنّ أسباباً عديدة من شأنها أن تجعل الدعوات إلى تغيير الأوضاع فاقدة للفعالية، ولن يكون لها أي مستقبل على المدى القريب. لهذا، أثارت الدعوات استغراب أغلب المحللين السياسيين، وكذلك المراقبين للشأن التونسي. فالثورة ليست شهوة أو رغبة لدى البعض في قلب الأوضاع، وإنما هي تراكم يخضع لشروط موضوعية إذا توفرت أصبح التمرد "حتمياً".
فالحكومة لا تزال في خطواتها الأولى، وهي تحظى بدعم برلماني واسع إلى حدّ الآن. ووجدت نفسها منذ البداية تواجه وباء كورونا الذي اكتسح العالم، وهي تحظى بتضامن وطني ملموس. بناء عليه، ليس منطقياً اختيار مثل هذه الظروف للإطاحة بحكومة ما أو تغيير النظام السياسي في أي بلد. فالتونسيون مشغولون فقط بكيفية التحكّم في هذا الفيروس ومحاصرته، والتعجيل بالعودة إلى حياتهم الطبيعية.
ومما ساعد الحكومة والائتلاف الحاكم على التماسك وعدم الشعور بالخطر، أن الوباء في تونس بقي تحت السيطرة، ولم يتفشَّ بشكل خطير وواسع كما توقع البعض، وهو أمر لا يزال يثير استغراب المختصين محلياً ودولياً، إذ لم تعرف الأسباب العلمية التي تقف وراء ذلك، على الرغم من الجهود الهامة التي بذلتها الحكومة والأجهزة الصحية. كما أنّ المبرر الذي حاول أن ينطلق منه الداعون إلى "ثورة ثانية" لتبرير تحركهم لم يكن مقنعاً للدفع بالجماهير نحو مغادرة مساكنهم والاعتصام أمام مقر البرلمان. كذلك، فإنّ كل الأحزاب البرلمانية تقريباً لم تعلن أنها مستعدة للانقلاب على الشرعية القائمة، والدخول في مغامرة غير محسوبة العواقب.
لو صبر أصحاب هذه الدعوات قليلاً وانتظروا ما الذي ستسفر عنه أزمة كورونا لحظيت مبادرتهم باهتمام أكبر. صحيح أنّ حركة "النهضة" انزعجت كثيراً من هذه المبادرات، وردت عليها بقوة، إلا أنّ التداعيات الاقتصادية المنتظرة لجائحة كورونا يمكن أن تنمي درجة الاحتقان الاجتماعي في البلاد. فالتحذيرات المتتالية التي وجهتها القيادة النقابية إلى الحكومة قد تمثل مقدمات لأزمة اجتماعية من الحجم الثقيل. فنسبة البطالة مرشحة للارتفاع، خصوصاً بعد الضربة القوية التي تلقاها قطاع السياحة، وكذلك جزء حيوي من القطاع الصناعي والتجاري المحلي.
كما أنّ الحكومة والأجهزة الأمنية بالخصوص مطالبة بمضاعفة اليقظة بسبب تصاعد ما وصفه حزب "قلب تونس" بحالة "الاحتقان والحقد والعنف بين الفرقاء"، مما جعله يهيب بالجميع "التعقّل والهدوء والابتعاد عن أجواء التوتّر والمناكفات ونبذ الانقسامات والتحلّي بروح المسؤولية، خصوصاً أنّ البلاد تمرّ بأزمة صحية واقتصادية واجتماعية غير مسبوقة تتطلّب وحدة الجهود".
ومما أكسب هذه المخاوف مزيداً من الجدية، التهديدات المؤكدة التي تلقتها رئيسة الحزب "الدستوري الحر" عبير موسى، من جهات مجهولة، مما جعل سلامتها الجسدية مهددة، لا سيما بعد استئناف الجماعات الإرهابية نشاطها المريب، مستغلةً الانشغال بفيروس "كوفيد 19". كما أنّ ارتفاع نسق الحملة السياسية الموجهة ضدّ موسى من شأنه أن يوفر المناخ المناسب لاستهدافها. وهو ما دفع براشد الغنوشي بصفته رئيس البرلمان، إلى إصدار بيان "تضامن المجلس الكامل مع النائبة عبير موسى، ودعوة الجهات المختصة إلى فتح تحقيق وتوفير الحماية اللازمة لها والسهر على سلامتها". فحركة "النهضة" ستكون الخاسر الأكبر لو تعرضت موسى لأي اعتداء جسدي، وذلك بحكم كونها الخصم الأقوى للإسلاميين.
في هذه الأجواء المحتقنة، شكّلت ثماني منظمات حقوقية "التنسيقية الوطنية للدفاع عن حقوق الإنسان والحريات الأساسية"، وأعلنت هذه المنظمات أنها ستتولى "مراقبة الانتهاكات والتجاوزات التي قد تطاول الحقوق والحريات في ظلّ الوضع الاستثنائي الذي تعيشه البلاد، وحتى لا يؤدي هذا الوضع إلى فرض قيود غير مستوجبة على الحريات الأساسية وفي مقدمتها حريتا التنقل والرأي والتعبير". وأشارت إلى أنّ تقارير صادرة عن منظمات المجتمع المدني أفادت "بحصول مثل هذه التجاوزات خلال تطبيق الأجهزة الأمنية لإجراءات الحجر الصحي وحظر الجولان (التجول)".
كما أنّ هذه التنسيقية تهدف إلى "مراقبة النصوص التي سيتم إصدارها بموجب التفويض الذي منحه مجلس نواب الشعب إلى رئيس الحكومة، من زاوية مدى توافقها مع التشريع الوطني والاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة". هذا يعني أنّ المجتمع المدني سيضاعف من دوره الرقابي خلال هذه المرحلة الصعبة التي تمرّ بها البلاد والحكومة.