قوة الدفع النفاث التي حملت المرشح جو بايدن إلى الفوز الكاسح في انتخابات أمس، "الثلاثاء الكبير"، فاجأت صاحبها وأنصاره وخصومه. حجمها فاق كل التوقعات وحتى المغالية في تفاؤلها، وكانت قاضية لدرجة أنها حسمت انتخابات التصفية قبل الأوان خلافاً للسوابق، لتحصرها باثنين فقط.
الملياردير مايكل بلومبرغ سارع بعد هزيمة ماحقة، إلى ضبضبة خيامه وإعلان انسحابه تجنباً للمزيد من الإحراج والانتكاس، بعد أن عجز عن كسب أكثر من مندوب واحد كلّفه حوالى نصف مليار دولار. المرشحة الأخرى الباقية، السناتور اليزابيت وارن، على وشك إعلان انسحابها؛ فلا أفق لحملتها بعد أمس. بقي في ساحة التصفية بايدن وبيرني ساندرز. وفي ضوء تسونامي أمس، لم يعد من المجازفة القول بأن المسرح صار جاهزاً للمنازلة النهائية بين الرئيس ترامب وبايدن. ساندرز صار عملياً خارجها، ولو أنه مستمر في منافسة بايدن حتى نهاية انتخابات التصفية.
لقد قفز بايدن بسرعة قياسية إلى هذه النقطة بتضافر عدة عوامل وازنة، التقت في لحظة استدراك فاصلة. فبعد تراجع بايدن في أول ثلاث ولايات، تحركت ماكينة حزبه الانتخابية بكل طاقاتها وخلاياها ومفاتيحها في الولايات والمحافظات والمناطق، لإنعاش حملة بايدن وقطع الطريق على المرشح "الاشتراكي" بيرني ساندرز ووقف اجتياحه للساحة الانتخابية، من باب أن فوزه بالترشيح ليس سوى ضمانة لفوز الرئيس ترامب.
أطلقت حملة مكثفة على أكثر من جبهة مع توظيف كافة الأوراق المتاحة. شملت استنفار أصوات الأميركيين السود الذين وفروا لبايدن أول فوز ساحق؛ كان المدخل لإحياء ترشيحه وإعادة تحريك قاعدة الحزب تحت شعار أنه "الأصلح" لمنازلة ترامب. ترافق ذلك مع ضغوط القيادة على 3 مرشحين للانسحاب وإخلاء الساحة، بما يعيد تصويب الأصوات باتجاه بايدن. خطوات أدت إلى رفع منسوب الإقبال على الاقتراع بضعف ما كان عليه في انتخابات 2016، بما حوّله إلى موجة عارمة ذهب الشق الأكبر منها إلى بايدن.
هذه الصحوة انطوت على أكثر من مغزى، أبرزها أن المؤسسة الحزبية في الحياة السياسية الأميركية ما زالت فاعلة ومؤثرة؛ فهي تمسك بمفاصل العملية الانتخابية إلى حد القدرة على ترجيح الكفة عندما تستنفر أوراقها وإمكاناتها المتوارثة. الدرس الثاني هو أن قاعدة الحزب الديمقراطي ترى هذه الانتخابات من زاوية إعطاء الأولوية لإزاحة الرئيس ترامب كحافز رئيسي. المغزى الثالث أن المال الصرف لا يقوى لوحده على شراء المناصب؛ فغزارته لم تشفع للملياردير بلومبيرغ ولا لمثيله توم ستاير. كلاهما سويًّا أنفق 600 مليون دولار، لينتهيا إلى الانسحاب المبكر. الأول دخل المعركة لقطع الطريق على ساندرز، وليكون الاحتياط البديل لبايدن لو سقط في اختبار التصفية. أمس انقلبت اللعبة باستقرار الخيار على بايدن.
لكن ذلك لا يلغي تأثير ساندرز المصرّ على مواصلة المعركة حتى نهاية انتخابات التصفية، وربما يصل إلى المؤتمر الحزبي العام في يوليو/تموز القادم بحصة وازنة من المندوبين، وبما قد يفجر أزمة في اختيار المرشح النهائي. حتى الآن يتقدم عليه بايدن بـ46 مندوباً فقط. لكن المتوقع أن تتوسع الفجوة لصالح هذا الأخير، بعد أن رسا خيار الحزب عليه وبدعم مالي مفتوح من مايكل بلومبرغ وأمثاله من الأثرياء والكتل المالية العاتية المناوئة للرئيس ترامب.
في العادة، لا تُحسم معركة الترشيح الحزبي، سواء الديمقراطي أو الجمهوري، قبل أواخر إبريل/نيسان، كما لم يسبق أن تقلصت إلى اثنين في مطلع مارس/آذار. في الواقع هي باتت في حكم المنتهية لصالح بايدن، ولو أن الفترة المتبقية من انتخابات التصفية ستشهد منافسة شرسة بين هذا الأخير وساندرز. لكنها بالمقارنة مع حرب ترامب-بايدن ستكون أقرب إلى النزهة.