يتجه الادعاء العام في العاصمة الإيطالية روما للتركيز على نقاط مفصلية وحساسة في ملف تحقيقات مقتل الطالب الإيطالي جوليو ريجيني في فبراير/شباط 2016 بالقاهرة، بعد 4 سنوات من المهاترات والتسويف وادعاءات التعاون الأجوف من قبل النيابة العامة المصرية، وذلك استغلالاً للصورة الجديدة التي يحاول النائب العام المصري الجديد حماده الصاوي رسمها، في ظل تجدد التعهدات السياسية من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بكشف الحقيقة وتسليم المتهمين إلى العدالة.
وأعلن الصاوي، منتصف الشهر الحالي "تشكيل فريق تحقيق جديد يعكف على دراسة وترتيب أوراق القضية ويعمل على اتخاذ كافة إجراءات التحقيق اللازمة، لاستجلاء الحقيقة في حيادية واستقلالية تامة". وأكد "حرص مصر على استمرار وتطوير التعاون القضائي بين النيابة العامة المصرية والنيابة العامة بروما، بغية الوصول إلى الحقيقة بموضوعية وشفافية تامّة، بعيداً عما يتم تداوله إعلامياً من معلوماتٍ مغلوطة عن القضية".
مصادر دبلوماسية مطلعة على مجريات التعاون القضائي الذي تجدد أخيراً بين البلدين في القضية، بعد توقف دام أكثر من عام، كشفت لـ"العربي الجديد" أن المسألة الأولى التي طلب مدعي روما من النيابة المصرية موافاته بـ"إجابة واضحة بشأنها"، هي ما إذا كان الرائد بالأمن الوطني مجدي شريف، الذي سبق ونشر ادّعاء روما اسماً رباعياً تقريبياً له هو "مجدي إبراهيم عبدالعال شريف"، قد كان موجوداً في العاصمة الكينية نيروبي في أغسطس/آب 2017 أم لا، وذلك بهدف التأكد من صحة ومصداقية المصدر الشرطي الأفريقي (المجهول) الذي أعلنت روما سابقاً أنه سمع حديثاً عفوياً من ذلك الضابط المصري أثناء تدريب للضباط الأفارقة، اعترف فيه بتورطه في قتل ريجيني، أو "الشاب الإيطالي" كما وصفه، إلى حد القول بأنه "لكمه عدة مرات" بسبب "الاشتباه في كونه جاسوساً بريطانياً".
ولا يبدو اسم الضابط المصري دقيقاً تماماً، لكنه أحد الأشخاص الخمسة الذين وجّه الادّعاء الإيطالي اشتباهاً صريحاً لهم في ديسمبر/كانون الثاني 2018 (قبل أسابيع أيضاً من الذكرى الثالثة لمقتل ريجيني)، وأبرزهم اللواء خالد شلبي، الذي يشغل حالياً منصب مساعد وزير الداخلية لشمال الصعيد، وكان يشغل وقتها منصب مدير المباحث في مديرية أمن الجيزة.
وكان مصدر مصري مطلع قد كشف لـ"العربي الجديد" آنذاك، هوية ضابطين من الخمسة المشتبه بهم؛ الأول هو اللواء طارق صابر، وليس صابر طارق كما نشر الإعلام الإيطالي وقتها، وكان خلال الواقعة مديراً لقطاع في جهاز الأمن الوطني، وهو الذي أصدر تعليماته بمتابعة ريجيني بناء على تقرير رفع إليه من أحد مساعديه عن أنشطته البحثية وتواصله مع نقيب الباعة المتجولين، بمناسبة بحثه عن النقابات المستقلة في مصر. أمّا الضابط الثاني، فهو العقيد آسر كمال، الذي كان يعمل رئيساً لمباحث المرافق بالعاصمة، وتوجد دلائل على أنه هو الذي أشرف على رسم خطة تعقّب ريجيني في إطار التنسيق بين الأمن الوطني والأمن العام، وقد تمّ نقله بعد الحادث بأشهر عدة للعمل بمحافظة أخرى.
كما نسب الادعاء الإيطالي أخيراً للضابط نفسه، المطلوب تأكيد زيارته السابقة إلى نيروبي أو عدمها، أنه من قام بتكوين شبكة "المخبرين" حول ريجيني والتي تضم، حسب السيناريو الإيطالي، كلا من زميلة ريجيني المقرّبة الباحثة نورا وهبي، وشريكه في السكن محمد السيد الصياد، ونقيب الباعة المتجولين محمد عبدالله الذي اعترف من قبل وتفاخر بأنه سلم ريجيني للأمن المصري، بعدما شكّك في عمله لحساب جهة استخباراتية أجنبية، وهو الوحيد الذي تحدث بشكل صريح من بين الثلاثة.
المسألة الثانية التي وجهها المحققون الإيطاليون للنيابة المصرية في الاجتماع الذي عقد بالقاهرة منتصف الشهر الحالي، تركز على ضرورة التحقيق من جديد مع وهبي والصياد وعبدالله حول مدى علاقتهم بالأمن الوطني، وموافاة روما بمجريات ونتائج هذا التحقيق، وذلك بناء على معلومات قالت روما إنها حصلت عليها تفيد بأن وهبي والصياد كانا دائمي التواصل مع الضابط مجدي شريف.
وسبق أن أثار توجيه الاشتباه للباحثة نورا وهبي، تحديداً، نهاية العام الماضي، جدلاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والحقوقية المصرية، في ظل تجاهل إعلامي محلي تام لرواية الادعاء الإيطالي، فوهبي تحظى بسمعة طيبة بين الباحثين المصريين، كما كانت أول من نشر نبأ اختفاء ريجيني في نهاية يناير/كانون الثاني 2016، وكانت أول من استقبل أسرة ريجيني لدى وصولها للقاهرة في ذلك الوقت، وهي التي اصطحبت والده ووالدته للمحامين الذين تولوا الدفاع عن حق ريجيني أمام القضاء المصري. وجاءت أبرز التعليقات من الأكاديمية رباب المهدي التي أشرفت على جزء من رسالة ريجيني وعلى رسالة وهبي لدرجة الماجستير، فطالبت الجميع بعدم الترويج للرواية الإيطالية. ورجّحت استمرار الإيطاليين في الضغط على وهبي للحصول على معلومات منها، كما فعلوا من قبل مع مشرفة ريجيني الأكاديمية في جامعة كامبريدج مها عبدالرحمن. وتعرّضت عبدالرحمن لضغط إيطالي عليها، أدى إلى استباحة الإعلام المصري الخوض في شخصيتها ونواياها وخلفياتها إلى حد اختلاق أن هناك علاقة بينها وبين جماعة الإخوان.
أما المسألة الثالثة فتتمحور حول ضرورة إعادة التحقيق في طبيعة المراقبة التي تعرّض لها ريجيني من قبل الأمن الوطني في الأشهر السابقة على مقتله، التي سبق واعترفت مصر بها بالفعل، سواء بأقوال الضباط الذين تم التحقيق معهم أو بيانات النيابة العامة. وأوضحت المصادر الدبلوماسية نفسها أن المعلومات التي تضمّنتها التحقيقات الماضية، والتي كانت قد أُرسلت لروما باللغة العربية وتمت ترجمتها لاحقاً خلال عام 2018 لم توضح طبيعة المراقبة وأدواتها ولا الشبهات التي افترضها الأمن المصري في ريجيني، والتي يبدو بالفعل أنها كانت تدور حول شبهة التجسس. وهنا تكمن المسألة الرابعة، والمهمة، فبحسب المصادر أبلغ الجانب الإيطالي النيابة المصرية باعتقاده بأن الأمن الوطني (الشرطة) لا يقف وحده خلف ما حدث، وأن هناك مؤشرات على ضلوع جهة أخرى، لم تسمها، في الاشتباه بتجسس ريجيني والقبض عليه بهذه الطريقة غير الاحترافية.
وكانت تقارير صحافية إيطالية قد نقلت عن مدعي روما قبل عامين، أن هناك دلائل على تورط المخابرات المصرية في الحادث، ليس فقط بسبب اختصاصها بالتحقيق في شبهات التجسس والتخابر التي ينسبها المصريون لريجيني، بل أيضاً بسبب عدم إقدام النظام على التضحية بالمسؤولين من الشرطة، مما أعطى روما انطباعاً بأن النظام يسعى لحماية مستويات وجهات أخطر من الشرطة. وعلى الرغم من ذلك لم تشمل قائمة المشتبه فيهم التي أعدتها روما أي عنصر استخباراتي، بل اقتصرت على ضباط شرطة متعددي المهام.
يذكر أن التنسيق بين البلدين يعود هذه الأيام بعد تعليقه منذ ديسمبر/كانون الأول 2018، عندما زار وفد إيطالي دبلوماسي قضائي مشترك القاهرة للتعرف على مصير الطلبات الإيطالية بتسليم التحقيقات الخاصة بقضية مقتل أفراد عصابة السرقة، قبل أن يعلن الطرفان المصري والإيطالي استحالة حدوث تلك الرواية وسقوطها من اعتبارات المحققين.
وفي تلك الفترة أفادت النيابة المصرية، بأنها رفضت طلباً من نيابة روما، بإدراج بعض رجال الشرطة على قائمة ما يسمّى في قانون الإجراءات الجنائية الإيطالي (سجلّ المشتبه فيهم)، وذلك لما أبداه الجانب الإيطالي من شكوك بشأن سابقة قيامهم بجمع معلومات عن ريجيني. وذكرت أن التحقيقات التي أجرتها النيابة العامة بمصر وإيطاليا تخلو من قرائن قوية، وليست مجرد شكوك على ما تتطلّبه القوانين الإيطالية ذاتها للإدراج في هذا السجل. وطرح المصريون آنذاك تساؤلات على الإيطاليين بشأن "دخول ريجينى إلى مصر بموجب تأشيرة دخول سياحية من دون التأشيرة اللازمة لقيامه بإجراء أبحاث خاصة برسالة الدكتوراه على النقابات العمالية المصرية المستقلة"، مما اعتبره الإيطاليون تهرباً واضحاً من النيابة المصرية وغلقا لباب التعاون والتفافاً على مواجهة الجريمة الحقيقية.
وكان آخر ضغط سياسي على مصر بالطرق الدبلوماسية قد حدث بعد تشكيل حكومة جيوزيبي كونتي الأولى باستدعاء السفير المصري لدى روما هشام بدر في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 أيضاً، لحثّه على نقل الغضب الإيطالي من التباطؤ المصري، بعدما أصرت النيابة العامة المصرية على عدم منح نظيرتها الإيطالية تفاصيل التحقيقات، التي من المفترض أنها أجرتها في قضية مقتل أفراد عصابة السرقة التي ادّعت الشرطة أنها هي التي اختطفت ريجيني بدافع السرقة.
في المقابل، يراهن السيسي على التعاون بين البلدين في الملف الليبي واستثمارات التنقيب في الحقول المصرية للمماطلة في كشف الحقيقة، فضلاً عن تنامي استيراد مصر للأسلحة الإيطالية. فقد كشفت وثيقة صادرة عن وزارة الخارجية الإيطالية نشرت تفاصيلها "العربي الجديد" في يوليو/تموز الماضي، أن مصر اشترت أسلحة ومعدات ونظما إلكترونية أمنية وعسكرية من إيطاليا في عام 2018 بقيمة 69.1 مليون يورو، مسجلة بذلك رقماً قياسياً في تاريخ العلاقة بين البلدين، واحتلت المركز العاشر في قائمة الدول المستوردة للسلاح الإيطالي بصفة عامة، والأولى في قارة أفريقيا.