مؤتمر برلين: إنعاش دور الأمم المتحدة

21 يناير 2020
خرجت القمة بأقل من المتوقع (جون ماكدوغال/فرانس برس)
+ الخط -
خرج مؤتمر برلين حول الأزمة الليبية، الذي عُقد أمس الأول الأحد، بمجموعة من الالتزامات التي تبدو في عناوينها قادرة على وقف تصاعد النزاع في هذا البلد، أكان التزام الدول التي حضرت المؤتمر بتجنّب التدخّل في النزاع المسلح في ليبيا، أو في التزام كل الأطراف الدولية بـ"احترام حظر الأسلحة (المفروض في 2011) وتنفيذه بشكل تام"، غير أن غياب أي آليات فعلية لتنفيذ هذه التعهدات، واستمرار الخلاف الكبير بين رئيس حكومة الوفاق الوطني فائز السراج، واللواء المتقاعد خليفة حفتر، ورفضهما الاجتماع معاً، كلها مؤشرات إلى أن مخرجات مؤتمر برلين ستبقى إنشائية بلا تنفيذ فعلي على الأرض.

كما أن الاجتماع الذي عُقد في العاصمة الألمانية لم يحمل مؤشرات إلى وجود اتفاق دولي لإنهاء حرب حفتر على الحكومة المعترف بها دولياً، ومحاولته السيطرة على طرابلس، فلم يتم توقيع اتفاق يلزم الجنرال المدعوم إماراتياً ومصرياً، وفرنسياً بدرجة أقل، بوقف حربه على العاصمة الليبية وبقية مدن الشرق الخارجة عن سيطرة مليشياته، ولا ظهر أن هناك قراراً دولياً حقيقياً بوضع ثقل ما لإنهاء الحرب وبدء مسار سياسي أمني طويل ينتهي باتفاق على إعادة إنتاج السلطة عبر الانتخابات وتوحيد المليشيات من الطرفين في جيش وطني على طريق بناء دولة ومؤسسات. ومن بين الأدلة على غياب القرار الدولي بوقف الحرب المدوّلة في ليبيا، اعتراف وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن القوى الكبرى "لم تنجح بعد في إطلاق حوار جاد وراسخ" بين الأطراف المتحاربة. لكن ما حصل عملياً هو شبه اتفاق دولي، في ظل غياب الطرفين الليبيين المعنيين، السراج وحفتر، ودولتين جارتين رئيسيتين، هما تونس والمغرب، على إعادة إحياء دور البعثة الأممية الخاصة إلى ليبيا التي يقودها غسان سلامة. كما أن اتفاق قادة الاتحاد الأوروبي وروسيا وتركيا والولايات المتحدة على "دعم حظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة"، يوحي بأن دعم الأمم المتحدة وسلامة وفريق عمله هو النتيجة الملموسة الوحيدة التي يمكن الخروج بها لدى قراءة نتيجة المؤتمر.

ونصّ البيان الختامي لقمة برلين، الذي سيُعرض كمشروع قرار على مجلس الأمن الدولي، وفق سلامة، على التزام المشاركين بـ"تجنّب التدخّل في النزاع المسلح في ليبيا أو في شؤونها الداخلية، وحث كل الأطراف الدولية على القيام بالمثل". كما التزم المشاركون بـ"احترام حظر الأسلحة وتنفيذه تنفيذاً تاماً". ودعوا كل الأطراف إلى الامتناع عن كل عمل من شأنه أن يفاقم النزاع، "بما في ذلك تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مرتزقة" لصالح مختلف الأطراف في ليبيا. كما دعوا إلى تطبيق عقوبات مجلس الأمن بحق أولئك الذي "ينتهكون بدءاً من اليوم" الحظر. وطالبوا "كل الأطراف المعنية بمضاعفة الجهود من أجل وقف الأعمال العدائية بصورة دائمة، وخفض التصعيد ووقف إطلاق النار بصورة ثابتة".
ويجب أن تترافق الهدنة القائمة مع إعادة تمركز للأسلحة الثقيلة والمدفعية والطائرات بغية تجميعها في ثكنات، ووضع حد للتحشيد العسكري، سواء كان يحظى بدعم مباشر أو غير مباشر من أطراف النزاع، وذلك على كامل التراب الليبي وفي المجال الجوي. ونصّ البيان على نزع سلاح الجماعات المسلحة والمليشيات في ليبيا وتفكيكها، على أن يُتبع ذلك بدمج عناصرها في المؤسسات المدنية، الأمنية والعسكرية. ودعيت الأمم المتحدة إلى دعم هذا المسار. كما دعت القمة "كل الأطراف الليبية إلى استئناف المسار السياسي الشامل" الذي ترعاه بعثة الأمم المتحدة بغية تحقيق مصالحة ليبية - ليبية. وحثّ المشاركون "كل الأطراف الليبية على احترام القانون الإنساني الدولي وحقوق الإنسان بشكل كامل"، كما دعوا إلى "وضع حدّ لممارسات الاعتقال التعسفي وأن يتم تدريجياً إغلاق مراكز احتجاز المهاجرين وطالبي اللجوء". وأشار المشاركون إلى أهمية توحيد المؤسسات الليبية، خصوصاً المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، ودعوا كل الأطراف إلى ضمان أمن المنشآت النفطية.

وفيما لم يتم تحديد أي خطوات عملية لتطبيق هذه التعهدات والدعوات، فإن الخطوة الأساسية كانت الاتفاق على تشكيل "لجنة عسكرية" مؤلفة من 10 ضباط، خمسة عن حكومة السراج وخمسة عن مليشيات حفتر، يقع على عاتقها أن تحدد ميدانياً آليات تنفيذ وقف إطلاق النار. كما تعتزم البعثة عقد قمة ليبية - ليبية في نهاية الشهر الحالي في جنيف، من أجل تشكيل حكومة موحدة مهمتها التحضير لانتخابات تشريعية ورئاسية.
وفي هذا السياق، أكد المبعوث الأممي غسان سلامة نيّته دعوة اللجنة الأمنية العسكرية (5+5)، خلال أيام للاجتماع، بعد ما تسلم أسماء أعضائها من كلا الطرفين الليبيين، مشيراً إلى أن المسار السياسي سينطلق نهاية هذا الشهر. وقال سلامة، في حديث لوكالة "سبوتنيك" الروسية، أمس: "المسارات الثلاثة بدأت تعمل. المسار العسكري والأمني يتألف من 5 ضباط نظاميين من كل طرف، ولقد تسلمت الأسماء الخمسة من كلا الطرفين، وسأدعو خلال أيام للاجتماع الأول للجنة العسكرية، أما اللجنة المالية والاقتصادية فقد بدأت اجتماعاتها في السادس من يناير (كانون الثاني) الحالي، والمسار السياسي سيبدأ إن شاء الله في نهاية الشهر".

وعن المسار السياسي، أوضح المبعوث الأممي أنه "يقوم على اختيار 13 مندوباً من مجلس النواب، و13 مندوباً من مجلس الدولة، وعدد من الشخصيات المستقلة، ونساء وممثلي المكونات وما شابه، وتختارهم البعثة ويجتمعون مع المندوبين القادمين من مجلس النواب ومن مجلس الدولة"، مشيراً إلى أن هذا المسار يشمل "البحث في كل المواضيع السياسية المعلقة منذ سنوات، وبينها مصير مسودة الدستور، التي تم التفاهم عليها في الهيئة التأسيسية ومصير قوانين الانتخاب الضرورية وتحديد موعد الانتخابات وربما إعادة تشكيل حكومة موحدة لعموم ليبيا، تشرف على إجراء الانتخابات". وأكد أن "الجزء الأساسي من خطة اللجنة الأمنية العسكرية (5+5) هو الحرص على المطالبة بمغادرة كل المقاتلين الأجانب للأراضي الليبية في أسرع وقت". وأشار إلى أنه "تم البحث بشأن المقاتلين غير الليبيين الذين يتدفقون منذ بدء الحرب"، مؤكداً أن "هناك مقاتلين جاؤوا من سورية، لكن هناك مقاتلين من مناطق أخرى، مثل السودان وتشاد وغيرها من الأماكن والدول الأخرى".


وفي سياق الخطوات العملية، بحث الأوروبيون خلال اجتماع لهم، أمس الإثنين، استئناف عمل البعثة البحرية التابعة للاتحاد الأوروبي قبالة الساحل الليبي، المعروفة بمهمة صوفيا، التي أطلقت عام 2015 بهدف مكافحة تهريب المهاجرين ومراقبة الحظر المفروض من الأمم المتحدة على إرسال أسلحة إلى ليبيا. وعُلقت هذه المهمة منذ عام 2019 بسبب رفض إيطاليا إنزال مهاجرين أنقذوا في البحر عبر سفن عسكرية على أراضيها. وقال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوسيب بوريل، أمس، إن التكتل سيناقش كافة الخيارات لدعم وقف رسمي لإطلاق النار في ليبيا إذا تم إبرام اتفاق بهذا الشأن، لكن أي تسوية سلمية ستحتاج إلى دعم حقيقي من الاتحاد كي تستمر.

ويبقى من أبرز العوائق أمام السلام في ليبيا الحرب التي يشنّها حفتر منذ إبريل/ نيسان الماضي بهدف السيطرة على طرابلس، والتي أدت إلى مقتل أكثر من 280 مدنياً إلى جانب 200 مقاتل، بحسب الأمم المتحدة، التي أشارت إلى نزوح أكثر من 170 ألف شخص. وتأمل الأمم المتحدة في أن تعزز قمة برلين اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في 12 يناير الحالي بمبادرة من روسيا وتركيا. لكن بعض الاشتباكات شبه اليومية سُجّلت منذ إعلان وقف إطلاق النار، وكذلك يوم المؤتمر، في جنوب طرابلس. كذلك قامت مليشيات موالية لحفتر، يوم الأحد الماضي، بتعطيل عمل حقلي الشرارة والفيل الرئيسيين في جنوب غرب البلاد. وقال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس إن السراج وحفتر اتفقا "بشكل عام" على حل حصار حقول النفط، لكنه لم يقدم إطاراً زمنياً.

وفي هذا السياق، حذر السراج، أمس، من أن ليبيا ستواجه وضعاً كارثياً إذا لم تضغط القوى الأجنبية على حفتر لوقف حصار حقول النفط. وأضاف السراج لوكالة "رويترز" أنه يرفض مطالب حفتر بربط إعادة فتح الموانئ بإعادة توزيع إيرادات النفط على الليبيين، مشيراً إلى أن الدخل في النهاية يعود بالفائدة على البلد بأكمله. وفيما أعلن أنه سيحترم دعوة قمة برلين إلى وقف إطلاق النار وإجراء محادثات سياسية، قال إنه لن يجلس مرة أخرى مع حفتر.

في المقابل، برز كلام للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد يمهد لتهدئة الوضع، بإعلانه أن بلاده لم ترسل حتى الآن قوات إلى ليبيا لدعم حكومة السراج، وإنما أرسلت مستشارين عسكريين ومدربين فقط. وقال للصحافيين على متن رحلة العودة من برلين، أمس، إن جهود تركيا في القمة وضعت الأساس لوقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة. وأكد أن بلاده ستواصل دعم المسار السياسي في ليبيا ميدانياً وعلى طاولة المباحثات. وأردف قائلا: "عدم توقيع حفتر على وثيقة الهدنة له معان، ومؤتمر برلين اقتصر على شهادات المشاركين، ونتمنى لها النجاح".

وكانت المستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، كما لافروف، قد تحدّثا بعد القمة، مساء الأحد، عن "خطوة صغيرة إلى الأمام"، وسط الإقرار بأنّه لا يزال هناك عمل كثير ينبغي إنجازه قبل الوصول إلى السلام. فيما تحدّث وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو عن "تقدّم" أُحرز في برلين باتجاه "وقف إطلاق نار شامل".