وكي لا تُشعر الشرطة المواطنين بغياب الاستنفار الأمني في الشوارع والميادين التي شهدت انتفاضة الجمعة في 20 سبتمبر/أيلول الماضي، والتي تبعها خروج تظاهرات في محافظات مصرية عدة يوم الجمعة الماضي، اتبعت في الأيام الثلاثة الماضية استراتيجية جديدة، تمثّلت في الإبقاء على صور المراقبة الأمنية، من إقامة لجان للتفتيش بعدد قليل من العناصر حول ميدان التحرير، وحشد حافلات صغيرة لتخويف المواطنين من الاعتقال، وغلق ميادين التظاهر في المحافظات، واستحداث تحويلات مرورية. وفي الوقت نفسه، اتبعت الشرطة استراتيجية إراحة العديد من القطاعات الأمنية وتقليل عدد أفراد المباحث الذين يتم الدفع بهم لتشكيل لجان وكمائن لاستيقاف المارة، خصوصاً من فئة الشباب، وكذلك تقليل عدد الكمائن المرورية، لتلافي آثار الإجهاد الذي نال من جميع عناصر الشرطة المصرية تقريباً خلال حالة الطوارئ القصوى التي طبقت الأسبوع الماضي.
كما بدأت الشرطة، بناءً على تعليمات من اللواء أحمد جمال الدين، المستشار الأمني للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في الانقضاض المفاجئ على مناطق بعينها لاعتقال واستيقاف وتفتيش عشرات الأشخاص من دون سابق إنذار، وبصورة شبه عشوائية زمنياً وجغرافياً، وذلك بحسب تصريحات مصدر أمني لـ"العربي الجديد". وقال المصدر إنّ المباحث في أقسام قصر النيل والدقي والمطرية وعين شمس والهرم والعجوزة ومدينة نصر أول وثان، تلقّت إشعارات عدة من الأمن الوطني بالدفع بقوة والنزول المفاجئ لتمشيط وتفتيش بعض المناطق والمقاهي والشقق السكنية واستيقاف حافلات نقل عام، خلال الفترات المسائية من الأيام الثلاثة الماضية، وتفتيش الهواتف المحمولة بحوزة المواطنين، والقبض فوراً على من يكتشف الأمن متابعته لصفحات معارضة أو نشره مقاطع فيديو للمقاول والممثل محمد علي على صفحته الشخصية.
وبالتوازي مع هذا الإرهاب الميداني للمواطنين، فتحت النيابة العامة بإدارة النائب العام الجديد المعين بقرار من السيسي، المستشار حمادة الصاوي، عدداً من القضايا الجديدة بأمر من المخابرات والأمن الوطني، للمحامين والنشطاء الحقوقيين الذين رووا تفاصيل تحقيقات نيابة أمن الدولة العليا مع معتقلي انتفاضة 20 سبتمبر.
وعلى ذمة إحدى هذه القضايا الجديدة، صدر قرار بحبس الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح، الذي يقضي أصلاً عقوبة المراقبة الشرطية المفروضة عليه يومياً من السادسة مساءً إلى السادسة صباحاً لمدة 5 سنوات في القضية التي عرفت إعلامياً بـ"أحداث مجلس الشورى"، وكذلك المحامي الحقوقي محمد الباقر الذي كان قد تعرّض لمضايقات أمنية عديدة أثناء حضوره مع المعتقلين في قضية التظاهر الأخيرة. واعتقلت قوات الأمن المصرية الباقر، مساء أول من أمس الأحد، من داخل النيابة العامة.
وذكر المصدر الأمني أنّ قائمة المتهمين في هذه القضية تشمل عدداً كبيراً من المحامين الحقوقيين الذين سيتم القبض عليهم تباعاً، بغرض إسكاتهم ومنعهم من نشر تفاصيل التحقيقات ومفارقاتها الإنسانية، والتي تمتنع الصحافة المحلية عن نشرها بتعليمات من دائرة السيسي، خصوصاً بعدما انتشرت تلك الشهادات بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، واستدرّت تعاطف المواطنين حتى من مؤيدي السيسي.
وعن مستقبل التحرّك القانوني في قضية التظاهر الكبرى التي تخطى عدد المعتقلين الصادر بحقهم قرار الحبس 15 يوماً على ذمتها، الألف إلى الآن، رجّح المصدر أن يتم إخلاء سبيل العشرات منهم بقرار من محكمة الجنايات المنعقدة في غرفة مشورة، بعد انقضاء فترة الحبس الاحتياطي الحالية، فيما بدأت السلطات أمس بالإفراج عن عشرات المعتقلين الذين لم يحالوا حتى الآن إلى النيابة العامة وكانوا محبوسين في معسكرات الأمن المركزي بالقاهرة وعدة أقسام شرطة بالإسكندرية والسويس ودمياط والمنصورة والمحلة وقنا وأسيوط.
في هذه الأثناء، ذكر المصدر الذي تحدثت مع "العربي الجديد" أنّ الوساطات التي بذلتها شخصيات سياسية ونقابية كبيرة للإفراج عن معتقلين بعينهم بعد صدور قرار حبسهم من النيابة "جميعها باءت بالفشل"، بما في ذلك المعتقلون من الصحافيين والمحامين وبعض مؤيدي السيسي الذين تم القبض عليهم بالخطأ، وذلك لتوكيد رسالة التخويف المقصودة من النظام.
وسبق أن اعتبرت مصادر حكومية وأمنية مصرية مطلعة، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أنّ الترويج لإجراء انفتاح سياسي حالياً هو نتيجة مزيج بين أمرين؛ الأول آراء أصيلة من مجموعات ودوائر مختلفة في النظام الحاكم تتقاطع بين المخابرات العامة والأمن الوطني والإعلام بهذا الشأن، والأمر الثاني محاولات كاذبة من دائرة السيسي نفسها التي يديرها مدير المخابرات العامة عباس كامل ونجل رئيس الجمهورية محمود السيسي، لمغازلة الشريحة الأكثر ثقافة من الرأي العام والإعلاميين والأكاديميين، وإتاحة مساحة حركة وتفاوض مستقبلاً على بعض المكتسبات المتعلقة بالمجال العام.
وكشفت المصادر أنّه خلال الفترة الماضية، قبل ظهور محمد علي، ثارت من جديد نقاشات موسعة بين دوائر النظام وشخصيات بارزة "يثق فيها السيسي لكنها لا تحظى بترحيب كامل من عباس كامل أو محمود السيسي" حول مدى أهمية فتح المجال العام جزئياً، وإتاحة الفرصة لظهور إعلام حرّ من جديد يلقي الضوء على المشاكل والسلبيات. كما ذهبت بعض الآراء، وفق المصادر، إلى أبعد من ذلك، وطالبت السيسي بالإفراج عن شخصيات معارضة بعينها، مثل رئيس حزب "مصر القوية" عبد المنعم أبو الفتوح، وإنهاء القضية الخاصة بنشطاء المجتمع المدني والحقوقيين الممنوعين من السفر والتصرف في أموالهم. غير أن السيسي بنفسه رفض ذلك بحجة أن "اتخاذ أي خطوة تراجع ستضع الدولة كلها تحت الضغط".
وكما توقعت المصادر الحكومية في تصريحات سابقة لـ"العربي الجديد" مطلع الأسبوع الماضي، فإنه مع استمرار عمل الآلة الأمنية، بدأ السيسي محاولاته الدعائية لامتصاص غضب الفئات الكادحة الأكثر تضرراً من قراراته الاقتصادية، والتي كانت العنوان الأبرز للحراك الجماهيري الأخير، على الرغم من محاولات السلطة الالتفاف على هذه الحقيقة والتلاعب بها. إذ أعلن السيسي، مساء أول من أمس، أنه سيشرف على إعادة صياغة معايير تنقية البطاقات التموينية، والتي تسببت في حرمان ملايين الأسر من الدعم بحجة امتلاكهم أصولاً أو ارتفاع مستوى مداخيلهم على الرغم من تدنّيها.
وقال مصدر حكومي في وزارة التضامن الاجتماعي إنه سيتم تخفيف شروط الالتحاق بنظام بطاقات التموين الجديد، مع إعادة تسعير بعض محتوياتها وتقسيم فئاتها مجدداً، وتخفيف شروط القيد المستحدث بها، مضيفاً أنّ رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عقد اجتماعات عدة غير معلنة خلال اليومين الماضيين مع وزراء التموين والتضامن والاتصالات، بهدف تحديث المنظومة بصورة أكثر تفاعلاً مع الشكاوى الأكثر تردداً من المستبعدين والمحرومين من الدعم على مديريات التموين بالمحافظات خلال الفترة الماضية، والتي كان يتم تجاهلها تماماً.