حسابات "النهضة" بين الرئاسية والتشريعية: محاولة استعادة الأصوات الضائعة

21 سبتمبر 2019
فقدت "النهضة" تقريباً ثلثي مناصريها (ياسين قايدي/الأناضول)
+ الخط -

حتى آخر اجتماع لمجلس شورى حركة "النهضة" قبيل الانتخابات الرئاسية التونسية المبكرة، التي جرت في 15 سبتمبر/أيلول الحالي، كانت الحركة مترددة بشأن طريقة مشاركتها في الرئاسيات، وكانت تقول للجميع قبل ذلك الموعد بكثير إنها لن تبقى محايدة هذه المرة، وستقوم إما بترشيح شخصية وطنية من خارجها أو أحد قياداتها. وتحدث رئيس "النهضة" راشد الغنوشي عن بحث حركته عمن سماه "العصفور النادر" لدعمه. وفي ذلك الاجتماع الأخير قبل الانتخابات، كان الغنوشي متشبثاً بفكرة اختيار شخصية من خارج الحركة، لكنه جوبه برفض الحاضرين، وخلص الاجتماع في النهاية إلى اختيار عبد الفتاح مورو.

يعرف كثيرون أن الغنوشي كان يرغب في الترشح للرئاسيات، حتى قبل وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، ولكنه مع قيادات أخرى في "النهضة"، كانوا يعتقدون أن الوقت لذلك لم يحن بعد، وأن المناخ الداخلي والظروف الإقليمية والدولية لم تنضج بعد لتقبل رئيس "نهضاوي"، ولذلك توجّه الغنوشي إلى الانتخابات التشريعية، خصوصاً أن الحياة السياسية التونسية تدور أساساً في البرلمان.


وبقطع النظر عما يمكن أن يحمله دخوله إلى قصر باردو (مقر البرلمان) وما يمكن أن ينتج عنه من تطورات بعد ذلك، فإن الثابت أن "النهضة" قطعت حاجز الخوف من قصر قرطاج (مقر الرئاسة)، وطبّعت مع منصب الرئيس، وسيكون ترشيحها شخصاً منها في الانتخابات المقبلة أمراً طبيعياً لا يثير إزعاجاً أو تعجباً. ولهذه الأسباب، يُعتبر مجرد ترشيح مورو إنجازاً في حدّ ذاته للحركة، كما أن حلوله في ترتيب النتائج قبل بقية مرشحي كل الأحزاب الأخرى، وبحصيلة أصوات بحوالي 13 في المائة، يعتبر إنجازاً آخر.

وأكد القيادي في حركة "النهضة" عبد الحميد الجلاصي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ تقييم النتائج التي حصلت عليها "النهضة" في الرئاسيات يختلف من وجهة النظر، "فمن زاوية، كسر القالب الجاهز والذي لم تكن تقدّم فيه الحركة مرشحاً للرئاسية، فهي تخطت هذا الحاجز وقدّمت مرشحاً، أما من الناحية الحزبية فمرشح النهضة حاز أغلبية الأصوات، ما يعني أن تسونامي ردّ الفعل ضد الأحزاب طاولها، ولكن بدرجة أقل من بقية الأحزاب".

وأوضح الجلاصي أنه من الناحية السياسية، فإن الحركة اعترفت بهزيمتها، لأنها لم تحصل على المرتبة الأولى في سباق الرئاسيات، ولأنها عرفت أيضاً من خلال النتائج أن خزانها الانتخابي يتآكل يوماً بعد يوم، ولديها أقل عدد من الناخبين منذ الثورة إلى غاية اليوم". ورأى القيادي في الحركة أن "اهتراء هذا الخزان الانتخابي يحتاج إلى اعتراف، وقد أقرت به الحركة، وقامت بتهنئة الفائزين"، مضيفاً أن "الأمر يحتاج أيضاً إلى الوقوف عند الأسباب واتخاذ الإجراءات لتعديل الوجهة، لأن هذا يعني أيضاً أن النهضة من زاوية انتخابية لم تعد جاذبة للناخب". وأشار إلى أن قراءة أولية تبيّن أن "النهضة" فقدت موقعها كحركة تموقع اجتماعي، وفقدت عند الكثيرين أيضاً صورتها كحركة قيميّة ثورية.

وتؤكد الأرقام صحة ما ذهب إليه الجلاصي، فقد حصلت "النهضة" في الانتخابات التشريعية للعام 2011، التي أفرزت المجلس الوطني التأسيسي الذي كتب الدستور، على 1498905 أصوات، أي بنسبة تقارب 36,97 في المائة، ليتقلص حجم الأصوات في انتخابات 2014، ويقتصر على 947014 صوتاً، أي نسبة 27,29 في المائة من مجمل الأصوات. وتواصل نزيف الأصوات في الانتخابات البلدية في 2018، وحصلت الحركة على 516379 صوتاً فقط، أي نسبة 28,64 في المائة من مجموع الأصوات، ولكنها جاءت في المركز الأول قبل كل الأحزاب الأخرى بحصولها على 44 في المائة من المقاعد في البلديات، وتواصل الأمر في الرئاسيات أيضاً، حيث لم تتجاوز الحركة 13 في المائة من جملة الاصوات.

ويعني هذا النزيف أن "النهضة" فقدت تقريباً ثلثي قواعدها ومناصريها، بينما خسرت أحزاب أخرى كل قواعدها تقريباً في الرئاسيات، ولم تتجاوز نسبة الواحد في المائة. ولذلك تتساءل قواعد الحركة عما يمكن أن تحقق في الانتخابات التشريعية المقبلة، في ظلّ هذا النفور الجماعي من الأحزاب.

القيادي في "النهضة"، وعضو الحملة الانتخابية لمورو، أسامة الصغير، نفى وجود بلبلة داخل الحركة إثر الإعلان عن النتائج الأولية للانتخابات الرئاسية، مشيراً إلى وجود "حوار عميق" و"كثير من الأسئلة" في الاجتماعات اليومية للحركة. وقال الصغير في حديث إذاعي: "نحن لم نربح، ولكننا لم نخسر أيضاً... صحيح أننا سقطنا ولكننا سقطنا واقفين... وهو نفس ما حدث في انتخابات 2014"، مشيراً إلى أن العديد من العوامل كانت وراء هذه النتائج، وأن أصوات الناخبين أقصت كل من تقلّد الحكم منذ سنة 2011، ملاحظاً أن الحركة احتلت المرتبة الأولى بين الأحزاب التي شاركت في الحكم منذ الفترة المذكورة.

ورأى الصغير أن وفاة السبسي وقرار الانتخابات المبكرة أربك كل الحسابات، مؤكداً فوز مرشح الحركة لو تمّت الحملة الانتخابية في توقيتها العادي، مذكراً بأن طرح اسم مورو لدخول السباق الرئاسي وتنظيم الانتخابات كان في أقل من شهر. وأكد أن "النهضة" ستدعم "مبدئياً قيس سعيّد وسيكون مرشح النهضة في الدور الثاني"، معتبراً أن سعيّد قادر على التجميع، متمنياً أن يحترم الأخير الدستور والقانون.

من جهته، قال رئيس الحركة "النهضة" راشد الغنوشي في حوار تلفزيوني، إن الحركة لم تتفاوض مع سعيّد، ولم يكن أبداً العصفور النادر لـ"النهضة". وأضاف الغنوشي "من طبيعة الحركة أنها لا تدعم شخصاً من دون التفاوض معه حول برامجه السياسية الكبرى". وكشف أن "نتائج الانتخابات تشير إلى أن قواعد هامة في الحركة انخرطت في مشروع قيس سعيّد من دون العودة إلى الحركة، ومن دون انضباط، وأن هزيمة مورو كانت أيضاً بسبب غياب التواصل مع القواعد".

ويعكس حديث الغنوشي ما تعيشه قواعد الحركة ومناصروها من أزمة في علاقتها بالحركة، فقد صوّت لسعيّد 15 في المائة ممن صوّتوا لـ"النهضة" سابقاً، وصوّت منهم لنبيل القروي حوالي 14 في المائة، ما يعني أن قرابة 30 في المائة ممن صوّتوا لها في السابق اختاروا غيرها هذه المرة، وهو تحوّل خطير يحمل إنذارات بالجملة تهدد مستقبلها.

وتذهب "النهضة" إلى مساندة سعيّد في الدور الثاني لأسباب عديدة، أولها أن المنافس الثاني، نبيل القروي، دخل في مواجهة مباشرة معها واتهمها بسجنه وبالتواطؤ مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد في ذلك، ولكن الأهم هو أنها ستسعى لملاحقة أصواتها حتى لا تخسرها في الانتخابات التشريعية، ومحاولة استعادة شيء من ألقها الثوري الذي أسقط كثير منه على طريق التحالفات والتنازلات المتبادلة على امتداد السنوات الماضية وإكراهات الحكم. لكن هذا قد يكون له ثمن مهم أيضاً يتعلق بالصورة التي تروِّج لها "النهضة" منذ سنوات على الصعيد الخارجي، وبالذات إذا تمادت في محاولة إرضاء الشق الراديكالي داخلها، خصوصاً أن حضوره يتصاعد منذ فترة ويكسب أشواطاً.

لكن رهان "النهضة" الأكبر اليوم هو على الانتخابات التشريعية القريبة المقررة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، التي ستجري في جو من التقلبات الكبيرة التي طرأت على مزاج الناخب التونسي، الباحث عن جديد مختلف، وهو رهان تاريخي للحركة، قد يقودها إلى طليعة الأحزاب كما هو الشأن في الرئاسية والبلدية، على الرغم من تراجع الجميع حجماً، أو يلقي بها إلى مراتب متأخرة مع الأحزاب التي تدفع اليوم ضريبة التغيير.