جونسون يستعجل إنجاز "بريكست": العين على الانتخابات المبكرة

28 اغسطس 2019
مضى شهر على تولي جونسون رئاسة الحكومة(ريتا فرانكا/Getty)
+ الخط -
لا يزال الغموض يلفّ ملف خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على الرغم من انقضاء شهر على وصول بوريس جونسون إلى "داونينغ ستريت"، أي إلى رئاسة الحكومة، خلفاً لتيريزا ماي. وبينما يصر جونسون على التمسك برسالته الانتخابية وتطبيق "بريكست" في موعده المقرر في 31 أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، بأي ثمن، يظل شكل الطلاق البريطاني مع بروكسل، وحتى إمكانية وقوعه، محط جدل.

وينتهج رئيس الحكومة البريطانية سياسة الغموض حول خطواته المقبلة. فهو تارة يلوح بعصا عدم الاتفاق، مؤكداً ضرورة تطبيق نتائج استفتاء عام 2016، لدرجة عدم استبعاده تعليق عمل البرلمان البريطاني لتجنب أي معارضة لـ"بريكست" من دون اتفاق، إضافة إلى تهديده المتكرر بامتناع بريطانيا عن دفع فاتورة الطلاق التي تدين بها للاتحاد الأوروبي (والبالغة 39 مليار جنيه استرليني) كجزء من التزاماتها. وطوراً يشير جونسون إلى عزمه التوصل إلى اتفاق مع الاتحاد، وهو ما أكده خلال جولته الأوروبية الأسبوع الماضي، موحياً بإمكانية خروج بريطاني منظم من الكتلة الأوروبية.

وخلال الجولة، خرج لقاء جونسون بالمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بأمل يتعلق بإمكانية التوصل إلى تفاهم بين بروكسل ولندن حول بديلٍ للفقرة الخاصة بخطة المساندة الإيرلندية في اتفاق "بريكست". فقد طلبت المستشارة من ضيفها البريطاني التقدم ببديل عملي للخطة (شبكة الأمان) خلال 30 يوماً، في ما عد مرونة في الموقف الأوروبي الرافض لإعادة التفاوض على اتفاق "بريكست".

في موازاة ذلك، ترسم الخطوات العملية التي اتخذتها الحكومة البريطانية خلال شهر يوليو/تموز الماضي صورة أكثر وضوحاً. فقد بدأ جونسون ولايته بتعيين حكومة أعضاؤها من مؤيدي "بريكست" المشدد، وبينهم عدد من زملائه، في حملة "بريكست" التي قادها عام 2016 ونجحت في كسب نتيجة الاستفتاء، مثل مايكل غوف (عين كمستشار لدوقية لانكاستر). كما انه اختار أيضاً دومينيك كمنغز، مهندس حملة "بريكست"، والمؤيد لعدم الاتفاق، في صدارة المستشارين الحكوميين.

ويرغب جونسون في أن تقف حكومته خلف سياساته بهدف عدم تكرار تجربة تيريزا ماي، التي حاولت الحفاظ على توازن بين مؤيدي "بريكست" ومعارضيه في حكومتها السابقة. وشهدت حكومة ماي العديد من الاستقالات خلال السنوات الثلاث من عمرها، إضافة إلى تمرد العديد من الوزراء على الخطّ الحكومي. ولعل المفارقة تكمن في أن جونسون كان مثالاً على ما واجهته ماي، إذ خالفها مراراً أثناء عمله كوزير للخارجية قبل أن يستقيل اعتراضاً على "خطة تشيكرز" (تقترح بقاء المملكة المتحدة في منطقة تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي خاصة بالمنتجات الصناعية والزراعية) وخط "بريكست" المخفف الذي سلكته.



في هذه الأثناء، تكثف حكومة جونسون جهودها للتحضير لاحتمال الخروج من الاتحاد الأوروبي من دون اتفاق، بخلاف نهج حكومة ماي، التي ألغت في أشهرها الأخيرة التحضيرات الحكومية اللازمة للتعامل مع الأزمات المحتملة في مثل هكذا سيناريو، والتي تكلف الخزينة مليارات الجنيهات. عدم الاتفاق على خطة الخروج من الاتحاد سيؤدي إلى اضطرابات على الحدود والموانئ البريطانية، نظراً للتوقف المفاجئ للاتفاقيات المعمول بها في إطار الاتحاد الأوروبي، ما سيقود إلى طوابير طويلة للمسافرين والبضائع، ونقص في احتياجات السوق البريطانية، سواء من حيث المواد الغذائية أو الأدوية، وغيرها مما تستورده بريطانيا. وبينما كانت حكومة ماي قد أذعنت لمعارضة البرلمان البريطاني الخروج من الاتحاد من دون اتفاق، يرفض جونسون هذا الخيار، وهو عيّن زميله ومنافسه مايكل غوف في صدارة الشخصيات العاملة على الترتيبات الحكومية استعداداً لهذا الاحتمال.

واتبع رئيس الحكومة البريطانية سياسته هذه بعددٍ من الخطوات الرمزية التي تؤكد على تطبيقه لتعهده بالخروج في الموعد المحدد. فقد أعلنت حكومته عن توقيع وزير "بريكست" ستيف باركلي وثيقة إلغاء سريان قوانين الاتحاد الأوروبي في بريطانيا منتصف شهر أغسطس/آب الحالي، إلا أن العمل بهذه الوثيقة لن يتم حتى خروج بريطانيا فعلياً من الاتحاد. كما أوضحت وزارة الداخلية البريطانية أنها ستنهي العمل بقوانين الاتحاد الأوروبي لحرية التنقل بعد "بريكست" مباشرة، ليطلب جونسون بعد ذلك من موظفي حكومته عدم حضور الاجتماعات الأوروبية مع بداية شهر سبتمبر/أيلول المقبل. هذه الخطوة، وإن كانت تعكس مسار الخروج البريطاني، إلا أنها تأتي تلبية لحاجة الحكومة البريطانية لأكبر عدد من الموظفين للتعامل مع تحضيرات عدم الاتفاق.

لكن أكبر تحديات جونسون تكمن في البرلمان البريطاني. فحكومته تمتلك أغلبية صوت واحد فقط، وتعتمد على أصوات نواب حزب المحافظين، إضافة إلى نواب الحزب الاتحادي الديمقراطي الأيرلندي. إلا أن "المحافظين" أبعد ما يكون عن الكتلة المتجانسة في ما يتعلق بـ"بريكست". وبينما يعتمد رئيس الحكومة على دعم الكتلة المحافظة المؤيدة لـ"بريكست" مشدد، والبالغة نحو 100 نائب (من أصل 311 نائباً محافظاً)، إضافة إلى التيار الأكبر في الحزب والذي يتبع التوجيهات الحكومية، إلا أنه يواجه معارضة من كتلة من النواب المحافظين المعارضين لـ"بريكست" من دون اتفاق، والبالغ عددهم نحو 30 نائباً وكانت صفوف هذه الكتلة قد تعززت موخراً بعدد من كبار وزراء حكومة ماي، مثل وزير المالية السابق فيليب هاموند، والذي تعهد أيضاً بوقف "بريكست" من دون اتفاق مهما كان الثمن.

وكانت ترجمة ارتفاع احتمالات وقوع "بريكست" من دون اتفاق ترتيب مباحثات بين الأحزاب المعارضة في البرلمان البريطاني، والتي تشمل أيضاً متمردي المحافظين، للتصويت بسحب الثقة من حكومة جونسون أو التقدم بتشريعات تمنع الحكومة من الخروج من دون اتفاق، وطلب تأجيل موعد "بريكست". ولم تتسن للبرلمان البريطاني فرصة الانعقاد منذ استلام جونسون لرئاسة الوزراء، إذ تنتهي العطلة الصيفية مع بداية سبتمبر. وينتظر أن يمتد انعقاده لمدة أسبوعين، قبل أن يتجه النواب للتحضير لمؤتمراتهم الحزبية السنوية والتي تنظم عادة نهاية الشهر نفسه. وخلال الأسابيع الستة المتبقية أمام البرلمان، يفضل متمردو المحافظين الاستيلاء على الأجندة البرلمانية من يدي الحكومة، وسنّ تشريع يفرض على جونسون تأجيل موعد "بريكست"، كما كانت الحال في مارس/ آذار الماضي، مع حكومة ماي.

إلا أن حزب العمال يسعى إلى سحب الثقة من حكومة جونسون، وهو ما لن يستطيع تحقيقه من دون دعم كامل الأحزاب المعارضة، ومتمردي المحافظين. ووفقاً لقانون الانتخابات البريطاني، فإنه في حال خسارة الحكومة لثقة البرلمان، يمنح الأخير مهلة أسبوعين لتشكيل حكومة تتمتع بثقته مجدداً، وإلا فيتم التوجه لانتخابات عامة. وتخشى المعارضة البرلمانية من أن حكومة جونسون ستقوم بتنظيم الانتخابات في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وبعد وقوع "بريكست".

وانطلاقاً من هذه النقطة تحديداً، يمكن إجراء قراءة شاملة لاستراتيجية جونسون منذ وصوله إلى رئاسة الوزراء. فهو يدرك حجم المعارضة التي يواجهها من قبل البرلمان البريطاني، وهشاشة الأغلبية التي تستند إليها حكومته. وهو بالتأكيد على يقين بأن انتخابات عامة مبكرة آتية وعاجلاً. إلا أنه يدرك أيضاً ألا أمل له في كسبها ما لم يتم "بريكست" أولاً. فحزب "بريكست"، والذي يتزعمه نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب "استقلال بريطانيا"، وأحد أبرز أوجه حملة "بريكست" في استفتاء 2016، يحمل رسالة وحيدة فقط، الخروج من الاتحاد الأوروبي في 31 أكتوبر/ تشرين الأول من دون اتفاق. وشكلت الانتخابات الأوروبية التي عقدت في مايو/ أيار الماضي إشارة إلى تخلي ناخبي المحافظين عن حزبهم، ودعمهم لحزب "بريكست" الذي تصدر نتائج الانتخابات الأوروبية.



وبالتالي فإن إصرار جونسون على تطبيق "بريكست" في موعده هو وسيلته لإنقاذ حزبه من الانهيار، وسحب البساط من تحت أقدام حزب "بريكست". ويمكن له خوض الانتخابات العامة التالية برسالة مفادها أنه نجح في تطبيق وعوده الانتخابية ونتيجة الاستفتاء. أما الغموض حول إمكانية الاتفاق، والذي نتج عن المباحثات الأوروبية الأسبوع الماضي، فيخدم هدفين، أولهما شقّ صفوف المعارضة البرلمانية، حيث إن أي أمل بإمكانية الاتفاق سيدفع متمردي المحافظين لتجنب التصويت بسحب الثقة من حكومتهم، والذي يعد "خياراً نووياً" يمكن أن يؤدي إلى فصلهم عن الحزب. أما الهدف الثاني، فيكمن في أن جونسون سيقدم الاتفاق، إن تم، على أنه نصر للإرادة البريطانية، وحكومته بالأخص، ويمنحه دفعة أكبر خلال أي انتخابات مقبلة. وفي حال لم يتم الاتفاق، فإن رئيس الحكومة البريطانية سيوجه اللوم بالتأكيد إلى الاتحاد الأوروبي "الرافض للمساومة"، أو للبرلمان البريطاني "المتآمر مع بروكسل ضد رغبة البريطانيين".