جريمة الاحتلال في وادي الحمص: أكبر عملية هدم في القدس منذ 1967

23 يوليو 2019
قُدّرت أعداد الجنود المقتحمين بأكثر من 1500 عنصر(وسام هشلمون/الأناضول)
+ الخط -
لم تكد تصدر محكمة الاحتلال العليا قراراً نهائياً بهدم ستة عشر مبنى سكنياً تضم مائة شقة، في حي وادي الحمص من أراضي صور باهر جنوب القدس المحتلة والمصنفة ضمن المنطقة (أ)، وترد بذلك التماساً قدمه أصحاب تلك المباني مطالبين بتجميد العملية، حتى شرعت طواقم ضخمة من الجرافات ومئات الجنود بتنفيذ عملية الهدم. ووصف المقدسيون ومسؤولون فلسطينيون هذه العملية بأنها أوسع عملية هدم تنفذها سلطات الاحتلال في القدس منذ العام 1967، بعد العملية التي نفذتها قبل نحو ثلاث سنوات، وطاولت قرابة خمسة وثلاثين منزلاً ومبنى في قرية قلنديا شمالي القدس المحتلة.
وأتمّت سلطات الاحتلال أمس، تنفيذ أكبر عملية هدم لمبان كانت صدرت أوامر عسكرية بهدمها بذريعة قربها من جدار الفصل العنصري. وهو ما تعتبره سلطات الاحتلال مخالفة أمنية لقرار عسكري يحظر البناء على مسافة مائتين وخمسين متراً من الجدار، الذي شطر أراضي قرية صور باهر إلى نصفين؛ الأوّل يقع داخل الحدود البلدية المصطنعة للاحتلال ويخضع إدارياً لإشرافها، فيما يقع النصف الثاني في منطقة صنّفها الاحتلال بأنها منطقة ضفة غربية، ومنح السلطة الفلسطينية فيها الصلاحيات المدنية، بما في ذلك تراخيص البناء وفق اتفاقية أوسلو.

وفيما يشبه عملية عسكرية منسقة، سبقتها بيومين مناورات تدريبية، اجتاحت قوات الاحتلال فجر أمس الإثنين، حي وادي الحمص وفرضت طوقاً عسكرياً عليه، فيما أعلنت عموم بلدة صور باهر منطقة عسكرية مغلقة، لتشرع بعد ذلك باقتحام المباني وإخراج من فيها من السكان المقدسيين بالقوة، مع ما تخلله ذلك من اعتداء بالضرب على العديد منهم، ممن قاوموا عملية الإخلاء. وقد صرخ بعضهم في جنود الاحتلال بأن يهدموا المنازل على رؤوسهم، لكنهم لن يتركوها، كما حدث مع أحد الأسرى المحررين ويدعى ياسر أبو هدوان.
من جهته، وصف علي العبيدي وهو أحد المتضررين من عملية الهدم، وعضو لجنة حي وادي الحمص، ما جرى من اقتحام للحي والمنازل بـ"الحرب"، حيث لم يتورع جنود الاحتلال عن الاعتداء على النساء والأطفال وكبار السن، وحتى المتضامنين الأجانب لم يسلموا من ذلك، ناهيك عن تحطيم الأثاث، واستهداف الخيول. وقال العبيدي، في حديث مع "العربي الجديد": "ما يجري اليوم هو عملية تطهير عرقي وعقاب وتهجير جماعي لأهالي الحي، الذين فشلت كل محاولاتهم القانونية والدبلوماسية لحماية عقاراتهم، فيما لم تتمكن السلطة الفلسطينية التي تشرف مدنياً على منح تراخيص البناء في المنطقة المصنفة (أ)، من منع عملية الهدم، كون الاحتلال تذرع بالأسباب الأمنية لتنفيذ جريمته".
وكان العبيدي يحاول عبثاً التصدي لجنود الاحتلال وهم يخرجونه مع أفراد عائلته من منزلهم، وفعلوا الشيء ذاته مع عائلة الكسواني، وأبو هدوان، وسط صرخات النساء والأطفال الذين كانوا شهوداً على قمع أرباب أسرهم. بينما حال جنود الاحتلال دون وصول أصحاب مساكن أخرى أمثال: جعفر أبو حامد، وعلاء عميرة، وعلي حميد، وطارق محاميد.
أمّا المواطن محمد أبو طير، فلم يسمح له جنود الاحتلال بالاقتراب من مبنى قيد الإنشاء كان شرع ببنائه قبل أكثر من عام، فيما انشغل خبراء متفجرات من جيش الاحتلال بتفخيخه، ويتألف من تسعة طوابق.
وبالنسبة لأفراد هذه العائلات، كان المشهد أكثر إيلاماً لهم وهم يرون مساكنهم تهدم أمام أعينهم، كما وصف لـ"العربي الجديد"، إسماعيل عبيدية، أحد من فقدوا منازلهم جراء عملية الهدم. وقال "لقد اعتدوا علينا، ومنعونا بالقوة من الاقتراب من مساكننا. فجأة وفي لحظات تحول الحلم إلى حجارة وكتل من إسمنت وطوب".

وعلى مداخل الحي وبلدة صور باهر، كانت الكلمة الأولى لجنود الاحتلال، حيث احتجز هؤلاء الوزير وليد عساف، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، وعدنان غيث محافظ القدس، وحاتم عبد القادر عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، ومنعوهم من الدخول. كما منعوا طواقم صحافية ومنظمات حقوق إنسان من الدخول إلى مواقع عملية الهدم، ما اضطر العديد منهم إلى سلوك طرق وعرة ليقتربوا من هذه المواقع، من دون أن يتمكنوا من الدخول إليها.

وقدّر رئيس لجنة أهالي حي وادي الحمص، حمادة حمادة، في حديث مع "العربي الجديد"، أعداد الجنود المقتحمين بأكثر من 1500 عنصر دفع الاحتلال بهم بواسطة عشرات الآليات العسكرية، لتبدأ جرافات ضخمة وعلى مدى ساعات بهدم المباني الستة عشر، على الرغم من أنّها تقع في المنطقة (أ) التي تتبع لوزارة الحكم المحلي، وحاصلة على تراخيص بناء منها.
وقال حمادة "تصرّف جنود الاحتلال بوحشية مع أصحاب تلك الشقق والمباني، ومنعوا الأهالي من الاقتراب من موقع الهدم، كما فرضوا حصاراً مشدداً هناك، في وقت كان المواطنون يتعرضون للضرب، وتمنع طواقم الصحافيين من التغطية". ووفقا لحمادة، فإنّ المباني التي هدمت تضم أكثر من مائة شقة سكنية، بعضها مأهول بالسكان والبعض الآخر قيد الإنشاء.
وفي رده على سؤال لـ"العربي الجديد"، حول تجاهل الاحتلال للسلطة الفلسطينية وتنفيذه عملية الهدم هذه في مناطقها، قال حاتم عبد القادر، عضو المجلس الثوري لحركة "فتح"، ووزير القدس الأسبق: "الهامش المتاح للسلطة الفلسطينية في هذه القضية محدود جداً"، مضيفاً أنّ "كل ما قامت به لا يتجاوز تقديم المساعدة في دفع تكاليف المحامين، علماً بأنّ قرار المحكمة العليا كان يقضي إمّا بأن يهدم الفلسطينيون منازلهم بأيديهم، أو تتولى سلطات جيش الاحتلال هدمها على نفقة أصحاب المنازل".
وتابع عبد القادر "لقد خسرنا القضية في محكمة الاحتلال العليا التي تثبت في كل يوم أنها أداة طيّعة في يد الاحتلال. برأيي كان الأولى أن يهدم الجدار وليس منازل أصحاب الأرض الشرعيين، الذين تغوّل الاحتلال على أراضيهم باستيطانه البشع. والآن نحن في وضع صعب للغاية، فهذه أكبر عملية هدم منذ العام 1967، وهي ترجمة واقعية لسياسة التهجير والتطهير العرقي الذي تمارسه سلطات الاحتلال". ولفت إلى أنّ "المطلوب من السلطة، وفي الحال، أن تؤمّن مساكن داخل مدينة القدس لمن هدمت منازلهم، فهم مقدسيون مقيمون، وهدف الاحتلال تهجيرهم من مدينتهم، وبالتالي نحافظ على وجود الإنسان الفلسطيني"، مضيفاً "أمّا الأمر الثاني المطلوب من السلطة القيام به، فهو التوجه إلى محاكم دولية ووطنية في بعض الدول الأوروبية، وحتى في بعض الولايات الأميركية لمحاكمة الاحتلال على ما جرى، باعتباره جريمة حرب، وأن يتم على الفور تشكيل طاقم قانوني يتوجه إلى هذه المحاكم لمعاقبة مسؤولين إسرائيليين بعينهم على ما اقترفوه".

وعلى المستوى السياسي، وما كان يمكن أن تقوم به السلطة الفلسطينية، قال عبد القادر: "إنّ نفوذ السلطة منعدم تماماً، فهي لن تستطيع ممارسة أي ضغوط على الولايات المتحدة والدول الأوروبية، بحكم الواقع السياسي الموجود والانحياز الأميركي المطلق لدولة الاحتلال".
بيد أنّ الناطق باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة، قال أمس الإثنين، إنّ "القيادة الفلسطينية ستعقد خلال الأيام المقبلة سلسلة اجتماعات هامة، رداً على عمليات الهدم التي نفذتها سلطة الاحتلال في حي وادي الحمص، والخروقات المتواصلة في الأرض الفلسطينية". وأضاف أبو ردينة في تصريحات لوكالة الأنباء الرسمية الفلسطينية "وفا"، أنّ "القيادة ستتخذ خلال هذه الاجتماعات قرارات مصيرية بشأن العلاقة مع إسرائيل والاتفاقات الموقعة معها". وذكّر أبو ردينة بأنّ الرئيس محمود عباس، حذّر مراراً وتكراراً من أنّ الجانب الفلسطيني لا يمكنه الاستمرار بالالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل، إذا بقيت مصرة على عدم الالتزام بها، مشدداً على ضرورة أن يتحمل الجميع مسؤولياتهم كافة، بما في ذلك إسرائيل كسلطة احتلال.


وفي الإطار نفسه، توعّد الوزير الفلسطيني وليد عساف، رئيس هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، بنقل المعركة مع الاحتلال إلى المحاكم الدولية، واصفاً كذلك في حديث مع "العربي الجديد"، ما جرى بأنه "جريمة حرب". وأضاف عساف: "الاحتلال يمارس سياسة التطهير العرقي ضد أبناء الشعب الفلسطيني في القدس، والهدم اليوم في وادي الحمص يمثل ذروة هذه السياسة. فهو لا يستهدف المباني فقط، بل الإنسان المقدسي المقيم فيها، في وقت يكثف فيه البناء الاستيطاني على جميع الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك أراضي صور باهر".
من جانبه، قال محافظ القدس، عدنان غيث، رداً على سؤال لـ"العربي الجديد"، حول ضعف الحراك الرسمي والشعبي في مواجهة الهدم في وادي الحمص، كما كان عليه الحال في قضية الخان الأحمر، حيث كانت السلطة الفلسطينية وضعت كل إمكانياتها لمواجهته، قال غيث: "وادي الحمص من حيث موقعه الجغرافي ليس كالخان الأحمر، حيث يمكن الوصول إليه من جميع محافظات الضفة الغربية، لهذا كان التدفق أكبر والحشود الشعبية والرسمية إليه أكبر أيضاً. مع ذلك، كانت هناك جهود رسمية على أكثر من صعيد رسمي وشعبي في وادي الحمص في الآونة الأخيرة، بمشاركة أهالي الحي وبلدة صور باهر، وعلى الجانب الآخر في بيت لحم من المنطقة المتاخمة للحي، حيث نظمت المحافظة هناك وحركة فتح فعاليات واعتصامات عدة، وأقامت خيام دعم وإسناد تمّ قمعها من قبل جنود الاحتلال، تماماً كما حدث حين أزالت قوات الاحتلال بالقوة خيام الاحتجاج في وادي الحمص ذاته".

مع ذلك، أشار محافظ القدس، إلى أنّ "قضية وادي الحمص لم تأخذ صداها الإعلامي الذي تستحقه من قبل السكان، للحديث عن قضيتهم في وسائل الإعلام المختلفة، ولكن حين تم الحديث عنها نظّمنا عدداً من الحراكات والفعاليات لمواجهة جريمة الحرب الإسرائيلية الجديدة"، متهماً رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بـ"محاولة التصعيد لدواع انتخابية، من خلال ارتكاب مجازر بحق الفلسطينيين، سواء بهدم منازلهم ومصادرة أراضيهم، أو استهداف حياتهم".
واعتبر غيث أنّ "الشجب والاستنكار لم يعد كافياً، ولن يوقف الاحتلال عن جرائمه، فاستهدافه للقدس مستمر، وما نتوقّعه أن تكون مواقع أخرى هي التالية، سواء الخان الأحمر، أو المسجد الأقصى، ووادي ياصول (ببلدة سلوان)، وحي البستان (جنوب المسجد الأقصى)".
وبحسب العديد من المؤسسات الحقوقية المحلية، ومنها مركز معلومات وادي حلوة، فقد هدمت سلطات الاحتلال حتى منتصف عام 2019 الحالي نحو 59 منزلاً في محافظة القدس، ما أدى إلى تشريد نحو 177 فلسطينياً ودفعهم إلى العراء، فيما تمّ هدم بعض المباني بيد أصحابها، لتوفير تكاليف الهدم الباهظة التي تلقى على عاتقهم إذا لم ينفذوا أمر الهدم بأنفسهم.
وتشير أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، حسب كتاب القدس الإحصائي السنوي، إلى أنّ عدد المساكن المهدومة في محافظة القدس منذ العام 1967 وحتى نهاية العام الماضي 2018، بلغ 2074، في حين تضرر من عمليات الهدم هذه ما مجموعه 9492 نسمة غالبيتهم من النساء والأطفال.
ووفق مكتب تنسيق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، فقد هدمت سلطة الاحتلال منذ عام 2009، 69 مبنًى في صور باهر، أو أجبرت أصحابها على هدمها، بحجة افتقارها إلى رخص البناء، وأنّ 46 مبنًى منها مأهول أو قيد الإنشاء، وأسفر هدمها عن تهجير 30 أسرة.
ويعد الهدم لدواعٍ أمنية، واحداً من أربعة أنواع هدم تلجأ إليها سلطات الاحتلال ضدّ الفلسطينيين، وتتم بذريعة حماية الجنود والمستوطنات. وتبرر إسرائيل هذه الأعمال تحت مسمى "أهداف عسكرية قانونية". وهذا النوع من الهدم لا يطبق على وضع القدس المحتلة فقط؛ بل هو سائد في أنحاء الضفة الغربية ومناطق (ج) كافة. وتشمل أنواع الهدم الأخرى، الهدم العقابي وهو هدم منازل العائلات الفلسطينية على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي بذريعة تنفيذ أبنائها عمليات عسكرية ضدّ الإسرائيليين، إضافة إلى الهدم الإداري، وهو الأكثر شيوعاً، وينفذ بذريعة البناء من دون الحصول على ترخيص، أو بذريعة المصلحة العامة. وتكمن السهولة في إصدار القرار الإداري للهدم بالاكتفاء بإصدار مهندس بلدية الاحتلال في القدس بلاغاً بهذه الحالات؛ في حين يقوم رئيس البلدية بدوره بالتوقيع عليه؛ مع أن "البناء بدون تراخيص" يجري أيضاً في المستوطنات بكثرة. ثم يأتي أخيراً الهدم القضائي، وهو عبارة عن قرار قضائي يصدر عن المحاكم الإسرائيلية، ومنها محكمة الشؤون المحلية، والمحكمة المركزية، والمحكمة العليا. ويأتي قرار الهدم القضائي عادة بعد الانتهاء من الإجراءات والقرارات الإدارية الصادرة عن بلدية الاحتلال في القدس.

المساهمون