38 عاماً على تأسيس "النهضة" التونسية: أسئلة وتحولات واستحقاقات

09 يونيو 2019
الغنوشي بدّل من نظرة الفرنسيين إلى النهضة(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
ترى شخصيات في حركة النهضة التونسية، في ذكرى تأسيسها الـ38، أن الحركة تحوّلت من حالة الإسلام السياسي إلى حالة الإسلام الديمقراطي، خصوصاً بعد المؤتمر العاشر الذي عُقد في عام 2016 وفصل بين العمل الدعوي والسياسي. كما كان من بين مخرجاته وضع الأسس الأولى لحزب سياسي مدني، مختص في العمل السياسي دون غيره، منصرف إلى التفكير في حلّ المشاكل التنموية وإدارة البلاد، بعد تحوّل "النهضة" إلى مساهم دائم في كل الحكومات التي عرفتها تونس بعد الثورة في أواخر عام 2010.
وتطرح هذه الاستحقاقات أسئلة صعبة على "النهضة" بشأن مآلات الانتقال إلى الإسلام الديمقراطي والحكم والإدارة وتطوير بناء الحركة. وبدلاً من البحث بتروٍ عن أجوبة لهذه الأسئلة التي تواجهها، وجدت الحركة نفسها منهمكة في التعاطي مع تحديات أن تكون في الحكم وتلاحق التطورات في المنطقة العربية والأفريقية، في موازاة إدراكها لحقيقة وجود قوى دولية تتابع بحذر شديد ملامح التطور الذي تشهده الحركة وتراقب عن كثب طريقة إدارتها لجملة هذه التحديات.

ويمكن الحصول على أجوبة بشأن بعض الأسئلة التي تواجهها الحركة من خلال آخر تحركات رئيس الحركة، راشد الغنوشي، وأحدثها زيارته إلى فرنسا ولقاؤه عدداً من المسؤولين الفرنسيين، حتى من عبّر منهم سابقاً عن مواقف مناهضة لـ"النهضة"، مثل رئيس الوزراء السابق جان بيار رافاران، الذي اعتبر قبل عام في تصريح إذاعي أن "تونس في خطر وهي بصدد الجنوح ويمكن أن تتحول إلى فضاء سياسي يستولي فيه الإسلاميون على السلطة بطريقة ديمقراطية"، مضيفاً أنه "من المُلّح تجنب حدوث سيناريو مماثل". غير أن رافاران استقبل الغنوشي هذا العام بكل حفاوة، لأنه "لم يعد بإمكان فرنسا تجاهل حركة النهضة بعد الآن، خصوصاً مع إمكانية فوزها بالانتخابات التشريعية المقبلة (مقررة في أكتوبر/تشرين الأول المقبل)" على حد ما ورد على موقع "أفريك إنتليجينس".

وأكد الغنوشي للفرنسيين ما يقوله لكل الأطراف الأجنبية المهتمة بالشأن التونسي، من أن البلاد نجحت في "المصادقة على دستور تقدمي، ديمقراطي، توافقي، وحداثي يحترم هوية الشعب، نابع من رؤية استشرافية لتونس في المستقبل يحفظ حقوق التونسيين وحرياتهم ويؤسس لدولة القانون والمواطنة والمساواة". كما أشار، خلال محاضرة قدمها أمام عدد من المفكرين الفرنسيين، إلى أن تونس "تمكنت من تشكيل مؤسسات وهيئات دستورية مستقلة مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهيئة مكافحة الفساد وهيئة مكافحة التعذيب، وغيرها من الهيئات، وسنّ جيل جديد من التشريعات والقوانين على أرضية الدستور الجديد عزّزت حقوق التونسيات والتونسيين وحرياتهم مثل حرية التنظّم في جمعيات وأحزاب وحرية التعبير وحرية الإعلام واستقلاليته وقوانين تجرّم العنف ضد المرأة وقوانين ضد التمييز العنصري". ولفت إلى أنه تم "تنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي في 2011 ثم الانتخابات التشريعية والرئاسية في 2014 والانتخابات المحلية في مايو/أيار 2018 والبلاد تستعد الآن لتنظيم تشريعيات ورئاسيات أواخر العام الحالي، فضلاً عن تركيز الحكم المحلي بانتخاب أكثر من سبعة آلاف عضو مجلس بلدي جديد في إطار تنزيل الباب السابع من الدستور وتعزيز اللامركزية والديمقراطية التشاركية والشعبية". وبالنسبة إلى الغنوشي فإن "هذا النجاح لم يكن صدفة، ولكنه كان نتيجة لخيارات تم اتباعها من قبل الفاعلين السياسيين التونسيين وفي مقدمتهم النهضة".



وشدّد الغنوشي على انتهاج حركته "مبدأ التوافق كأساس لمعالجة الخلافات، وتشكيل حكومة مع أحزاب علمانية، والتمسك بهذا المبدأ ليشمل كل فضاءات الشأن العام ويضم إسلاميين وعلمانيين وقديماً وجديداً، بديلاً عن منطق الإقصاء والاستقطاب الذي ساد في تجارب مماثلة فتعثرت". هذه المواقف للغنوشي رأى مراقبون أنها تحمل رسائل مهمة للغرب عموماً، ومحورها تطمينات على المسار الذي تتجه فيه الحركة إلى حزب ينتهج الواقعية السياسية في تعامله مع الفرقاء المحليين، ويحرص على مدنية الدولة ولا يخاف طرح قضاياها الكبرى والبحث عن مناطق مشتركة لا تتعارض مع التطورات التي تشهدها البلاد.

في الوقت عينه، يبدو أن أهم شركاء تونس، فرنسا وألمانيا وإيطاليا، بدأت تتعامل مع النهضة على أساس أنها معطى ثابت في المشهد السياسي والنسيج الاجتماعي التونسي، خصوصاً بعد فوزها الأخير في الانتخابات البلدية، وفي ضوء ما تقدمه الاستطلاعات من تفوقها الممكن في الانتخابات التشريعية المقبلة. أي أن "النهضة" أصبحت شريكاً ضرورياً، اقتصادياً تحديداً، ولم يعد بالإمكان تجاوزه أو العمل على تحييده، على عكس قوى عربية تحاول الإلقاء بثقلها في المشهد التونسي بغاية إقصائها. وعلاوة على هذه القوى الأوروبية، تنضم قوى غربية عديدة أخرى، على رأسها الولايات المتحدة، لبحث وتمحيص عملية الانتقال إلى الإسلام الديمقراطي الذي يتحدث عنه الغنوشي، لأنه قد يشكل مثالاً وحلاً لمعضلات كثيرة في المنطقة العربية الاسلامية.

غير أن هذه التحولات الفكرية الملحة على النهضة ليست باليسر النظري، إذ تشهد الحركة من الداخل نقاشات كبرى، وصلت إلى حدّ نشوب خلافات معلنة بين عدد من القيادات بشأن سرعة هذا التحول وضرورة الانتهاء منه سريعاً وعدم الاستسلام للتيارات التقليدية، للتفرّغ للمسألة الداخلية الأهم، القضايا التنموية وإدارة الحكم. وهناك خلافات حقيقية حول بعض الخيارات التي تم اتخاذها، مثل القطيعة مع الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي والتحالف مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، وغيرها من القضايا المتعلقة بشكل إدارة المرحلة وتقييم تطوراتها المتلاحقة. وبنفس الأهمية، ستكون الحركة على موعد للفصل في قضايا ملحة ضرورية تستعجلها، من بينها تطوير أدائها الداخلي، وحسم مسألة الانتخابات الرئاسية وشكل المشاركة فيها، وكذلك الانتخابات التشريعية وتطوير أدائها البرلماني وتقديم وجوه وشخصيات جديدة قادرة على تقديم هذه الصورة الجديدة التي تبحث عنها النهضة، وبإمكانها المنافسة، خصوصاً أن هناك أجواء تتحدث عن مساع للتجميع بغاية منافسة النهضة، وربما إحالتها على المعارضة إن نجحت، رغم صعوبة ذلك. ولكن الحركة ستكون بالخصوص مضطرة لبحث حلول للمعضلة الاقتصادية والاجتماعية، فهي شريك دائم في الحكم وتتحمّل بالضرورة أعباء الحكومات المتعاقبة وتُحاسب على أساسها، لأن النهضة تدرك بلا شك أن بقاءها في المشهد رهن بتحقيق استقرار اجتماعي وسياسي يؤمن لها إمكانية بحث تطويرها الداخلي في حد أدنى من الهدوء.



المساهمون