محمد مرسي: قتل مستمرّ

19 يونيو 2019
واجه مرسي حرباً ضروساً من أجهزة الدولة العميقة(حسام دياب/الأناضول)
+ الخط -
"رُفعت الجلسة... على أن تؤجل لجلسة الثلاثاء في جلسة مسائية"، بهذه الكلمات أنهى القاضي محمد شيرين فهمي، الذي يعد واحداً من قضاة الإعدام في مصر، جلسة محاكمة الرئيس الراحل محمد مرسي و23 من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، في القضية المعروفة إعلامياً بـ"التخابر مع حماس"، من دون أن يدري أنها ستكون الكلمات الأخيرة التي سيسمعها أول رئيس منتخب لمصر من منصة المحكمة التي لطالما ضربت بالقوانين والشرائع عُرض الحائط، ورفضت الاستجابة لنداءاته المتكررة من سوء أوضاعه الصحية، والانتهاكات التي يتعرض لها، ما أدى إلى وفاته في جريمة قتل متعمد، أصرت السلطات المصرية على أن تكون متعددة الأوجه، بعد التفاصيل التي تكشفت خلال الساعات الماضية عن كواليس دفن الجثمان والتعليمات التي أعطيت لأذرع النظام للتعامل مع الجريمة.

وأثبت النظام المصري أن الخوف الذي كان ينتابه من مرسي حياً، وكان دافعاً وراء الانقلاب عليه وسجنه في ظروف مزرية وإهماله طبياً على نحو متعمد، لا يزال قائماً حتى بعد وفاته، إذ حاول النظام إخفاء معالم جريمته، فعمد جهاز المخابرات العامة لإصدار تعليماته لوسائل الإعلام الموالية بعدم استخدام عبارات "الرئيس المعزول" أو "الرئيس السابق" في وصف مرسي، في وقت خرجت الفضائح تباعاً بعدما صدرت الصحف المصرية، أمس، ليتبين أن وفاة أول رئيس منتخب في مصر اقتصرت تغطيتها على بضع كلمات، حتى من دون حتى الإشارة لكونه رئيساً سابقاً.

هذه الفضائح في التعاطي مع الجريمة، امتدت أيضاً إلى الأردن، إذ عمدت السلطات لمنع إقامة صلاة الغائب أمام السفارة المصرية، فيما سمح بذلك في موقع آخر، وكان الأمن الفلسطيني يمنع إقامة بيت عزاء لمرسي في مدينة نابلس، شمال الضفة الغربية. في المقابل، كانت العديد من الدول تشهد صلوات فضلاً عن فعاليات تنعى الرئيس المصري المعزول وتدين تعامل السلطات المصرية معه وحرمانه من أبسط حقوقه ما أدى إلى وفاته.
ولم تكتف السلطات بالقتل الممنهج والبطيء لمرسي في السجن، بل عمدت إلى رفض تسليم الجثمان إلى أسرته لدفنه في مقابر العائلة بقرية العدوة بمحافظة الشرقية، وبعدها طُلب من الأسرة تحديد أي مكان آخر للدفن، فتم اقتراح دفنه في مقابر الوفاء والأمل بمدينة نصر التي دفن فيها عدد من مرشدي جماعة الإخوان سابقاً، ليقتصر عدد من حضروا الغُسل أو الجنازة على 13 شخصاً فقط.

وكشف مصدر مقرب من أسرة الرئيس، تحدث لـ"العربي الجديد"، عن تفاصيل الساعات الأخيرة التالية للجلسة التي سقط فيها مرسي مغمياً عليه قبل إعلان وفاته قائلاً إنها "ساعات ثقيلة مرّت، تخللها الكثير من الاتصالات بشأن شكل الجنازة وتفاصيلها ومَن سيحضر، حتى سُمح لأسرة الرئيس الممثلة في زوجته وابنته وأبنائه الأربعة عمر وأحمد وعبد الله وأسامة بالاختلاء بالجثمان في المستشفى لمدة دقائق قليلة، بعد وصول أسامة من سجن العقرب. بعدها تم البدء في إجراءات الغسل، حيث حضر غسله أبناؤه الأربعة الذكور وشقيقه الأصغر، وكانت زوجته وابنته ومحاميه عبد المنعم عبد المقصود خارج غرفة الغسل، مضيفا أن زوجة الرئيس طلبت من إحدى الشخصيات الأمنية التي كانت تتولى الاتصالات مع العائلة، ضرورة إخراج نجله أسامة من السجن لتوديع والده، قائلة "أسامة يحضر ومش مهم باقي إخواته يحضروا.. حرام عليكم".



تبع ذلك، نقل الجثمان في سيارة إسعاف إلى مسجد ليمان طرة، وهناك وقف 9 أشخاص لأداء صلاة الجنازة، وهم أبناؤه الأربعة الذكور وابنته وزوجته وشقيقه ومحاميه وأحد الحراس، وبعد ذلك مباشرة توجه الجثمان في سيارة الإسعاف وتحت حراسة أمنية مشددة إلى مقابر الوفاء والأمل، وهناك كان في انتظار الجثمان أحد المحامين، وشقيق مرسي الثاني، وشقيقته، وأحد أقارب مرشد سابق للجماعة، وشخص آخر، وتم إنزال الجثمان إلى المقبرة، حيث تم دفنه إلى جوار المرشد الراحل محمد مهدي عاكف مباشرة. وبحسب مصدر عاين الجثمان قبل تكفينه، قال إنه "تم تشريح الجثمان بناء على قرار النائب العام، وتم إعداد الصفة التشريحية، ومن المقرر صدور تقرير بذلك، ولا نعلم إن كان سيتم نشر تفاصيله في الإعلام أم لا".

وطويت بوفاة مرسي، أول من أمس، صفحة مليئة بالنضال السياسي، إذ دافع أول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر عن حريته حتى آخر نفس في حياته، فهو لم يلن أو يُهادن لحظة واحدة، وظل متمسكاً بموقفه الرافض للانقلاب منذ ست سنوات، حتى بات رمزاً للتحرر ورفض الانقلابات العسكرية. وتجلى موقف مرسي بوضوح في مداخلاته المعدودة أمام المحاكم التي نظرت قضاياه العديدة، ونال فيها نصيباً وافراً من الأحكام المسيسة.
ولد مرسي عام 1951 في قرية العدوة التابعة لمركز ههيا بمحافظة الشرقية، وبعدما أتم دراسته الأساسية انتقل إلى العاصمة المصرية للدراسة في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، ليحصل على درجة البكالوريوس في الهندسة بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف عام 1975، ثم خدم لمدة عام في الجيش المصري جندياً في سلاح الحرب الكيميائية بالفرقة الثانية مشاة.

عُين مرسي معيداً بكلية الهندسة جامعة القاهرة حتى نال درجة الماجستير في هندسة الفلزات عام 1978، ليعمل مدرساً مساعداً في الجامعة قبل أن يحصل على منحة دراسية من جامعة جنوب كاليفورنيا بالولايات المتحدة وينال درجتي الماجستير والدكتوراه في تخصص حماية محركات مركبات الفضاء عام 1982، ما أهله للتدريس في جامعات أميركية عدة. آثر العودة إلى مصر فعمل أستاذاً لهندسة المواد بكلية الهندسة جامعة الزقازيق على مدار 25 عاماً، نشط خلالها كذلك في العمل الاجتماعي والخدمي، ومقاومة التطبيع مع العدو الصهيوني، أثناء شغله عضوية المؤتمر الدولي للأحزاب والقوى السياسية والنقابات المهنية.

انتخب مرسي عضواً في مجلس الشعب السابق لدورة واحدة عام 2000. شغل مرسي موقع المتحدث الرسمي باسم الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان بين عامي 2000 و2005، وكان واحداً من أنشط النواب في ذلك البرلمان، وأشدهم هجوماً على حكومة الرئيس حسني مبارك آنذاك، وتقديراً لمجهوداته البرلمانية اختارته الأمم المتحدة كأفضل برلماني على مستوى العالم في عام 2005. وفي انتخابات مجلس الشعب عام 2005، حصل مرسي على أعلى الأصوات في دائرته، وبفارق كبير عن أقرب منافسيه، ولكن النظام أعلن فوز منافسه في جولة الإعادة، رداً على هجوم مرسي المستمر على الحكومة، وتقدمه بأشهر استجواب في تاريخ البرلمان المصري عن حادثة قطار الصعيد عام 2002، والذي خرجت كافة الصحف في اليوم التالي للإشادة به. وشارك مرسي في تأسيس "الجبهة الوطنية للتغيير" مع عزيز صدقي عام 2004، وكذلك تأسيس "الجمعية الوطنية للتغيير" في عام 2010 مع نائب رئيس الجمهورية السابق محمد البرادعي، فضلاً عن المشاركة في تأسيس "التحالف الديمقراطي من أجل مصر"، الذي ضم 40 حزباً وتياراً سياسياً لخوض انتخابات مجلس الشعب عام 2011.

واعتقل من أمام مجمع محاكم الجلاء بوسط القاهرة، بعد مشاركته في تظاهرات شعبية احتجاجاً على تحويل قاضيين إلى لجنة الصلاحية، لموقفهما من تزوير انتخابات البرلمان عام 2005، وأيضاً في أعقاب اندلاع ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 ضد الرئيس حسني مبارك، غير أنه حُرر بواسطة الأهالي بعد ترك قوات الأمن للسجون أثناء الثورة، فخرج ليتصل بقناة الجزيرة ويبلغ الداخلية بأنه لم يهرب وأنه مستعد للتوجه إلى أي مكان للتحقيق معه. ترشح لمنصب رئيس الجمهورية عام 2012 عن حزب "الحرية والعدالة"، الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين، وتقدم جميع منافسيه في الجولة الأولى بأكثر من خمسة ملايين صوت، لم تضمن حصوله على الأغلبية المطلقة، ليخوض جولة الإعادة أمام آخر رئيس وزراء في عهد مبارك، أحمد شفيق، ويفوز في الانتخابات بنسبة 51.7%، ويؤدي اليمين الدستورية رئيساً لمصر أمام المحكمة الدستورية في 30 يونيو/ حزيران 2012.

ومنذ اليوم الأول لحكمه، واجه مرسي حرباً ضروساً من أجهزة الدولة العميقة، ممثلة في مؤسسات الأمن والقضاء والإعلام. وحاول البعض تصوير فترة حكمه، التي لم تتجاوز العام، بأنها خالية من القرارات والمواقف المؤثرة الإيجابية لمصلحة تحقيق أهداف ثورة 25 يناير، متجاهلين العديد من الوقائع البارزة والقرارات المهمة، التي ربما تكون هي السبب الرئيسي لسرعة انقلاب الجيش عليه لإنهاء تجربة الرئيس المدني المنتخب الأول في تاريخ مصر. كما عرف مرسي بمواقفه المنحازة للثورة السورية والقضية الفلسطينية. ولعل أبرز مواقفه الداخلية إصداره بعد توليه الرئاسة بأسبوع واحد قراراً جمهورياً بإعادة مجلس الشعب للانعقاد لإصدار قانون معايير تشكيل الجمعية التأسيسية التي استطاعت استكمال عملها حتى إصدار دستور 2012.

كما اتخذ مرسي موقفاً ثانياً مهماً بتشكيل لجنة لجمع المعلومات والأدلة وإعادة تقصي الحقائق في وقائع قتل المتظاهرين، وأصدر قراراً آخر بتشكيل لجنة لحماية الحرية الشخصية بمراجعة قرارات الحبس وأحكام السجن العسكرية الصادرة ضد النشطاء السياسيين والمواطنين الآخرين في حوادث الثورة، انتهت بإصداره قانوناً بالعفو العام عن المئات منهم فضلاً عن إصدار الإعلان الدستوري في 11 أغسطس/ آب 2012 الذي قاد إلى رد السلطة التشريعية لرئيس الجمهورية وحده، وبالتالي إلغاء الدور السياسي للمجلس العسكري، ليعقب ذلك إطاحته بمحمد حسين طنطاوي من وزارة الدفاع وبرئيس الأركان سامي عنان، لكن هذا القرار انطوى على خطأ جسيم في اختيار خليفة طنطاوي، متمثلاً في عبد الفتاح السيسي الذي انقلب عليه في 3 يوليو/ تموز 2013، تحت ذريعة الاستجابة للاحتجاجات الشعبية ضد مرسي. ومنذ ذلك الحين تعرض مرسي للإخفاء القسري بواسطة الجيش لمدة أربعة أشهر، حتى ظهر في أولى جلسات محاكمته "الهزلية" في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، حيث وجهت له اتهامات في قضايا مختلفة ظل يحاكم فيها حتى توفي في قاعة المحكمة.