إشارات متضاربة من السيسي للخارج والداخل بشأن حدود القمع

22 مايو 2019
يحاول السيسي إظهار جانب إيجابي عن نظامه للخارج (Getty)
+ الخط -
يواصل النظام المصري إرسال إشارات متضاربة للدول والدوائر الغربية التي تتابع عن كثب تردي أوضاع المجال العام وحقوق الإنسان، وكذلك للتيارات السياسية المعارضة بالداخل. ففي الوقت الذي بدأت فيه أجهزة النظام حملة جديدة ضد النشطاء السياسيين اليساريين، وبعد أيام من إصدار قرار عفو عن معتقلين ومحبوسين ومحكومين معظمهم متهمون بالانتماء لجماعة "الإخوان المسلمين" أو التعاطف معها، أصدر النظام قراراً بإخلاء سبيل 5 من النشطاء السياسيين المعارضين لنظام عبد الفتاح السيسي، وهم السفير معصوم مرزوق، وعبد الفتاح الصعيدي البنا، ورائد سلامة، ويحيى القزاز، والناشطة نرمين حسين، على خلفية الاتهامات الموجهة إليهم بشأن "التنسيق مع جماعة محظورة هي الإخوان وتكدير السلم والأمن العام، ونشر أخبار كاذبة".

هذا القرار الذي نشرته وسائل إعلام موالية للسلطة نقلاً عن مصادر أمنية قبل أن تعلنه النيابة العامة المختصة بإصداره، جاء بعد ساعات من حملة أمنية على منازل نشطاء، قالت الشرطة إنهم ينتمون لجماعة "الإخوان المسلمين"، وتم قتل 12 منهم في ظروف غامضة في مدينتي أكتوبر والشروق المتاخمتين للعاصمة.
واللافت للنظر أيضاً أن قرار إخلاء السبيل صدر بشأن 5 نشطاء فقط في هذه القضية، هم المنتمون للتيار الناصري القومي، وتم استثناء ناشطَين تم القبض عليهما أثناء فترة تفجّر هذه القضية، والتي وصفها المحامون وكلاء المتهمين بـ"المفتعلة" منذ بدء وقائعها في أغسطس/ آب 2018. والناشطان المحبوسان اللذان لن يستفيدا من قرار إخلاء السبيل هما: سامح سعودي، وهو متهم في قضية أخرى، وعمرو محمد، الذي أوضحت التحريات الأمنية أنه "ينتمي لجماعة الإخوان" بحسب مصدر قضائي مطلع على هذه القضية، ولذلك لم يستفد من القرار الأخير.

وقالت مصادر سياسية ناصرية لـ"العربي الجديد"، إن النشطاء الخمسة الذين صدر قرار بإخلاء سبيلهم، استفادوا من "وساطات مكثفة" قامت بها العديد من الشخصيات الموالية للنظام الحالي ولها خلفيات فكرية وحزبية ناصرية، على رأسها نقيب الصحافيين، رئيس هيئة الاستعلامات الحالي، ضياء رشوان، ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأخبار ياسر رزق، ورئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان محمد فائق. واستمرت هذه الوساطات شهوراً، ولم يتحقق إخلاء السبيل إلا بعد التعهد الشخصي من بعض الوسطاء بعدم ظهور معصوم مرزوق ويحيى القزاز تحديداً في وسائل الإعلام، وأن يلزما منزليهما طوال فترة التحقيقات المستمرة في هذه القضية.

وأوضحت المصادر أن مشكلة الأجهزة مع هذه الشخصيات ليست مبدئية، "وأن النظر لهم ليس كما يُنظر للإخوان المسلمين أو اليساريين الماركسيين... فهناك فارق واضح يتعلق برؤية كل منهم للدولة ولدور الجيش والأجهزة السيادية والأمنية بها وعلاقاتها بمحيطها الإقليمي والقوى الغربية أيضاً"، مشيرة إلى أن فتح هذه القضية للنشطاء المخلى سبيلهم كان على سبيل "التأديب" وليس "الانتقام" نظراً لما بدر منهم من هجوم على السيسي في وسائل الإعلام.
وكان معصوم مرزوق قد أطلق مبادرة في يوليو/ تموز 2018 للاستفتاء على بقاء نظام الحكم القائم برئاسة السيسي وفقاً لدستور 2014، وإذا قبل الشعب باستمراره في الحكم فهو بذلك يمنحه الشرعية، وإذا اعترض على استمراره يَصدُر قانون بتعطيل الدستور وإلغاء جميع القوانين الصادرة من 2014 حتى الآن، ويُشكَّل مجلس رئاسي يرعى كتابة دستور جديد وانتخاب رئيس جديد للبلاد.


وفور إعلان المبادرة وترحيب بعض التيارات المعارضة بها، تقدّم عدد من المحامين المؤيدين للسلطة ببلاغات للتحقيق مع مرزوق بمزاعم الإخلال بأمن الدولة ونشر أخبار كاذبة وزعزعة الاستقرار الوطني، ومنعت السلطات المصرية الإعلام من تناول بنود مبادرة مرزوق، ثم فتحت وسائل الإعلام الموالية للسلطة النار على مرزوق واتهمته بالتنسيق مع "الإخوان" والتعامل مع وسائل إعلام معادية للسلطة كالقنوات التي تبث من تركيا وقطر.

وبحسب مصدر قانوني مطلع على مجريات القضية، فإن الاتهامات موضوع هذه القضية لا تتعدى كونها كلاماً إنشائياً عن علاقة المتهمين بـ"الإخوان" وتلقيهم أموالاً من بعض وسائل الإعلام في تركيا وبريطانيا، وترديدهم شائعات تضر بالأمن القومي والسلم الاجتماعي، وأن النيابة استحدثت تهمة جديدة تنطبق على الشخصيات المعارضة من خارج جماعة "الإخوان"، هي "مشاركة جماعة إرهابية العمل على تحقيق أهدافها" حتى لا تصطدم بحقيقة خصومة هذه الشخصيات مع "الإخوان" ومشاركتهم جميعاً في 30 يونيو/ حزيران 2013 ضد حكم الرئيس المعزول محمد مرسي.

ويبدو أن نظام السيسي يحاول أن يرسم لنفسه صورة مختلفة عن صورة "النظام القمعي الكلاسيكي" في وسائل الإعلام الغربية في الفترة المقبلة، فبعد سنوات من المضي قدماً في طريق واحد فقط هو البطش من دون إبداء أي مرونة أو استجابة للمناشدات، فإن التحركات الأخيرة للنظام تعكس رغبته في إظهار جانب إيجابي، مع الحفاظ على قواعد القمع السياسي التقليدية ضد المجموعات الإسلامية واليسارية التي يرفض النظام التعامل معها مبدئياً ولا يرحب بها في المجتمع المصري.

ولا يمكن قراءة هذه التحركات بمعزل عن تطورين أساسيين، الأول هو تخطيط النظام لتمرير سريع وهادئ لقانون العمل الأهلي أو تنظيم عمل الجمعيات الأهلية، الذي أقرته الحكومة بصفة نهائية أخيراً، وهو قانون مهم وحيوي بالنسبة للدول الغربية المانحة للمجتمع المدني والحكومة المصرية. أما التطور الثاني فهو محاولة السيسي تلافي الآثار السلبية العميقة لتقرير الخارجية الأميركية عن حقوق الإنسان في مصر الذي صدر في مارس/ آذار الماضي، انطلاقاً من تأكد السيسي أن إدارة دونالد ترامب التي تدعمه قد تتغير قريباً، وحتى إذا استمرت في السلطة فإنها قد تفشل أمام الطوفان المعارض لسياساته داخل الكونغرس الأميركي من الحزب الديمقراطي وبعض دوائر الحزب الجمهوري.

وكان التقرير الأخير قد اتسم عن سابقيه باتساع المنظور الزمني، إذ جاء التقرير في 55 صفحة من القطع الكبير ولم يقتصر على انتقادات بشأن وقائع حدثت العام الماضي أو 2017 فقط بل امتد ليشمل أموراً وقعت منذ 2013 ولم يتم تدارك آثارها بعد. أما السمة الثانية فهي التعدد الموضوعي، إذ صدر شاملاً انتقادات لنظام السيسي في كل الملفات التي يمكن للدولة مجرد التفكير فيها، بما في ذلك عمالة الأطفال والتعامل مع مصابي الإيدز والمتحولين جنسياً، معتمداً في ذلك على تقارير وشهادات صدرت على مدار العام الماضي من منظمات حقوقية مصرية وعالمية لها ثقلها في دوائر المعلومات الأميركية. كما اتسم بالوعي لسيناريوهات الدفاع المعتادة من حكومة السيسي واتهام المعارضين لها داخل وخارج مصر بدعم "الإخوان"، فلم يشر إلى "الإخوان" كأحد التيارات الفاعلة في المشهد المصري، وكأنه يريد أن يهدر على السيسي ونظامه فرصة المتاجرة بمزاعم دعم الخارجية الأميركية أو دوائر حولها لـ"الإخوان"، وهو ما يعكس وعياً واضحاً بطبيعة خطاب السيسي الدفاعي والمروج لسياساته القمعية في الغرب، والقائمة على التخويف من التيارات الإسلامية بشكل عام.