المحافظون يحكمون قبضتهم في واشنطن: الترامبية تهمّش الإدارة

14 ابريل 2019
شاناهان يتماهى مع ترامب في كل شيء(جيم واتسون/فرانس برس)
+ الخط -
بعد ثلاثة أشهر على إخراج جيمس ماتيس من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، بدأت الإدارة الأميركية تعكس أكثر من أي وقت مضى رئاسة دونالد ترامب. فالتعيينات والإجراءات الإدارية التي اتخذت منذ ذلك الوقت عكست تحوّل البيت الأبيض نحو موسم الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2020، كما مهّدت لصعود "الترامبية" المتحررة من كل قيود، وهي عبارة عن مزيج من الارتباك الاستراتيجي والمواجهة الدبلوماسية. إحكام المحافظين قبضتهم على إدارة ترامب تزامن مع تراجع نفوذ البنتاغون والتيار المعتدل داخل الإدارة في صناعة قرار السياسة الخارجية الأميركية.

الهالة التي أعطاها ترامب لماتيس في العام الأول من ولايته بدأت بالتلاشي تدريجياً، في ظلّ التباعد بين الرجلين حول لائحة طويلة من قضايا السياسة الخارجية. في العام الثاني، أزاح ترامب حلفاء ماتيس داخل الإدارة، لا سيما وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون وكبير موظفي البيت الأبيض جون كيلي. ومنذ مطلع العام الحالي، اكتمل المشهد مع تعيين مدير مكتب الإدارة والميزانية مايك مولفاني في منصب كبير موظفي البيت الأبيض بالوكالة، وباتريك شاناهان وزيراً للدفاع بالوكالة. الأول غير ملمّ بقضايا السياسة الخارجية والثاني لا يملك النفوذ الذي كان يتمتع به ماتيس.

هذه التعيينات الإدارية بعد خروج العسكر من إدارة ترامب، فتحت الطريق أمام وزير الخارجية مايك بومبيو، ومستشار الأمن القومي جون بولتون، وكبير المستشارين، صهر ترامب، جاريد كوشنر للاستفراد بصياغة السياسة الخارجية الأميركية من دون الضوابط التي كانت موجودة في العامين الأولين. وبرز ذلك بوضوح في قرار وضع الحرس الثوري الإيراني على لائحة الإرهاب، على الرغم من هواجس البنتاغون المزمنة من مخاطر هذا الأمر على القوات الأميركية في العراق والمنطقة.

مع العلم أن التناغم الموجود بين المحافظين داخل إدارة ترامب يعود إلى تقاسم النفوذ الضمني في ظل استفراد كوشنر في ملف العلاقات مع إسرائيل والسعودية، وتركيز بولتون على التواصل مع روسيا وقيادة الجهود الأميركية ضد إيران وفنزويلا، أما بومبيو فيؤدي دور المبعوث الدبلوماسي الذي يروّج ويدافع عن سياسات البيت الأبيض بدل تمثيل صوت وزارة الخارجية في مجلس الأمن القومي كما فعل أسلافه. وبطبيعة الحال، هناك أيضاً الدور الفعّال لنائب الرئيس مايك بنس، الأقرب إلى أذن ترامب، والأكثر حرصاً على تنفيذ أجندة القاعدة الإنجيلية في البيت الأبيض.

وبرزت في الأسابيع الأخيرة مؤشرات واتجاهات تركت آثارها على السياسة الخارجية الأميركية، لا سيّما في الشرق الأوسط. وسترسم ملامح الفترة المتبقية من ولاية ترامب الأولى أولاً ميزانية الأمن القومي للسنة المالية 2020، التي أعلن عنها البيت الأبيض خلال الشهر الماضي، وتضمّنت تخصيص 750 مليار دولار للبنتاغون. وهي زيادة وصفها البيت الأبيض بأنها "غير مسبوقة" بزيادة 4.7 في المائة مقارنة مع ميزانية الـ 716 مليار التي أقرها الكونغرس لعام 2018. لكن فعلياً تُضخّم إدارة ترامب هذه الأرقام لإعطاء انطباع بأنها أكثر الإدارات سخاءً في صرفها على النفقات الدفاعية. مع العلم أن هذه الميزانية مشابهة لميزانيات السنوات السابقة، ولا تمثل تحولاً كبيراً في الاستراتيجية العسكرية الأميركية.



تضمّنت الميزانية المقترحة مبلغ 576 مليار دولار للبنتاغون و165 مليار دولار لـ"عمليات الطوارئ الخارجية"، التي تموّل العمليات العسكرية في العراق وسورية وأفغانستان، بالإضافة إلى 8.6 مليارات دولار لبناء الجدار الحدودي مع المكسيك، التي لن تقرّها الأكثرية الديمقراطية في مجلس النواب. بالتالي إذا ما تم اقتطاع المبلغ المخصص للجدار الحدودي واحتساب التضخم من عام 2019، فليس هناك زيادة في الميزانية الدفاعية، بل حتى يمكن الحديث عن انخفاض فعلي. الملفت في هذه الميزانية أنها ضاعفت المبلغ في حساب "عمليات الطوارئ الخارجية"، الذي لا يخضع لسقوف الإنفاق الإلزامي، في محاولة للهروب من هذا السقف للإنفاق الذي فرضه قانون مراقبة الميزانية لعام 2011.

ولا تتماشى مضاعفة حساب "عمليات الطوارئ الخارجية" مع قرارات إدارة ترامب بتقليص عدد القوات الأميركية في أفغانستان وسورية، في وقت يفترض فيه أن الحرب على تنظيم "داعش" شارفت على نهايتها. لكن حجم الإنفاق على هذا الحساب في السنتين الماليتين 2020-2021، يدلّ على أن إدارة ترامب تخطط لإبقاء قواتها في العراق وسورية خلال السنتين المقبلتين، في ظل استمرار محاولاتها لردع إيران عبر الضغوط الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية. والأهم من ذلك، تعكس الميزانية قراراً ضمنياً بتأجيل تنفيذ الاستراتيجية الدفاعية القومية التي أقرها ماتيس. ما يعني أن البيت الأبيض يصبّ تركيزه على مكافحة الإرهاب بدل نقل تركيزه وموارده بشكل كامل لردع تعاظم نفوذ منافسين تقليديين مثل الصين وروسيا، وهذا ما يزيد الغموض في مقاربة إدارة ترامب للسياسة الخارجية.

من جهة أخرى إن التراجع الآخر والمستمر طاول ميزانية وزارة الخارجية التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، وبلغت 42.8 مليار دولار فقط، في تراجع بنسبة 23 في المائة مقارنة مع السنة المالية 2019. على الرغم من أن بومبيو حاضر في التعبير عن كل قرارات إدارات ترامب، لكن تهميش وزارة الخارجية تحت قيادته لا يزال مستمراً. كما أن طاقم السفارة الأميركية في السعودية اشتكى للإعلام الأميركي، بأن كوشنر أبقاهم بعيداً عن كل الاجتماعات خلال زيارته إلى الرياض الشهر الماضي. سطوة بولتون على وزارة الخارجية كانت واضحة، حين أتى إلى مقر الوزارة للإعلان عن رفض وإلغاء تأشيرات دخول موظفي محكمة الجنايات الدولية، في خطوة متعارضة مع المبادئ التقليدية لوزارة الخارجية الأميركية. وقد نشر "مكتب محاسبة الحكومة" تقريراً الشهر الماضي، تحدث فيه عن "تدني معنويات" الدبلوماسيين الأميركيين نتيجة العدد الكبير من الشواغر. وهي مناصب يذهب حوالي 42 في المائة منها لممولين ساهموا في تبرعاتهم لحملة ترامب الرئاسية عام 2016.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الفوضى داخل الإدارة لا تزال مستمرة، ما يقوّض قدرتها على اتخاذ قرارات جدية في السياسة الخارجية. بديل ماتيس المؤقت، الآتي من القطاع الخاص (شركة بوينغ) باتريك شاناهان، يطمح ليكون وزير دفاع دائم، على الرغم من اعتراضات الديمقراطيين المتزايدة عليه، لا سيما بعدما أعلن في 25 مارس/آذار الماضي عن تخصيص مبلغ مليار دولار لتمويل حاجز حدودي مع المكسيك. شاناهان يحظى بثقة ترامب ودعم كل من بولتون وكوشنر، لامتلاكه "خصائص" لم يكن ماتيس يملكها، وهي "الولاء والامتثال".



في هذا الإطار، كشف موقع "فورين بوليسي" نقلاً عن مصادر داخل الإدارة، أنه "في أحد اجتماعاته الأخيرة مع قيادات البنتاغون، بحسب التقارير الأميركية، ركز شاناهان على ردع الصين وتفادى الحديث عن روسيا، في تماهٍ مع مواقف ترامب". وفي حال تثبيت شاناهان، سيتمكن البيت الأبيض من ملء كل شواغر البنتاغون عبره وبالتالي امتلاك مفاتيح القرار في وزارة الدفاع. وظهر مؤشر أولي على هذا الأمر، عبر تعيين شاناهان مراقب الحسابات في الوزارة ديفيد نوركيست نائباً له، ما يعني أن أول رجل وثاني رجل في هيكلية البنتاغون، يملكان خبرات في الإدارة المالية، لا في قضايا الأمن القومي.

أبعد من البنتاغون والخارجية، هناك دور بارز للمجتمع المخابراتي، لا سيما مديرة وكالة المخابرات المركزية (سي أي إيه) جينا هاسبل، ومدير المخابرات القومية دان كوتس. وسبق لترامب أن وقّع الشهر الماضي قراراً تنفيذياً، ألغى فيه مفاعيل قرار سلفه باراك أوباما، بالطلب من وكالة المخابرات إصدار تقرير سنوي عن الضربات الجوية التي تشنّها في مناطق النزاع مثل اليمن وليبيا وباكستان. وهي تقارير تشمل عدد الضحايا بين المسلحين والمدنيين جراء هذه الضربات، وهي أرقام أقل من العدد التقديري للمنظمات غير الحكومية التي تراقب هذه الضربات. ويأتي هذا القرار في ظل تقارير إعلامية أميركية، تتحدث عن توسع دور الـ"سي أي إيه" في نيجيريا والصومال وغيرها من الدول. ما يعني أن ترامب يشجع الوكالة على العودة إلى "العمل السري" في أنشطتها الجوية، وأن الوكالة عادت بشكل رسمي إلى تشغيل الطائرات من دون طيار، بعدما كان أوباما سحب منها هذا الامتياز، لتركّز بدلاً من ذلك على جمع المعلومات المخابراتية.

جينا هاسبل، الآتية من صفوف الوكالة، حافظت على تباينها مع سياسات إدارة ترامب، غير أنها في الفترة الأخيرة ابتعدت كلياً عن الأضواء. وهناك شعور داخل الوكالة، بتفادي المواجهة مع ترامب، أو تسريب معلومات ضده حتى مرور ولايته الرئاسية على خير، وذلك خشية من تداعيات محتملة قد تشمل تعيين شخص آخر موال له مكان هاسبل، واتخاذ قرارات تؤدي إلى تعقيد قدرة الوكالة على القيام بعملها.

من جهته، يعيش دان كوتس المعضلة نفسها. فقد سبق أن تحدى ترامب علناً أكثر من مرة، لا سيما في ندوة علنية في شهر يوليو/تموز الماضي، حين سخر من دعوة الرئيس لنظيره الروسي فلاديمير بوتين لزيارة واشنطن. بنس أدى دوراً رئيسياً في الوساطة بين الرجلين، ليبقى كوتس في منصبه في المدى المنظور. عليه، إن تردد المجتمع المخابراتي في إعطاء مشورة تتعارض مع مواقف ترامب لا تساعد على صياغة سياسة أميركية أكثر عقلانية.

نجاح المحافظين في إحكام القبضة على مفاصل القرار في إدارة ترامب مقابل تراجع نفوذ التيار المعتدل، ينعكس مواقف أميركية متشددة في فنزويلا وإيران، لكن ترامب يضع فيتو على توجهات الصقور في مناطق النزاع مثل سورية وأفغانستان. هذا التناقض ينعكس في استراتيجية أميركية غير متماسكة في النظرة إلى العالم. والقرارات الأخيرة لترامب، مثل الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، تعكس هذه التلقائية في السياسة الخارجية الأميركية وغياب النقاشات الجدية داخل الإدارة منذ رحيل ماتيس. فتقاطع المصالح بين أطراف التيار المحافظ داخل الإدارة، يربط بين أجندة القاعدة الإنجيلية والانتخابات الرئاسية لعام 2020. وفي ظل غياب الموانع البيروقراطية التي أوقفت التهور في سياسة ترامب الخارجية خلال العامين الأخيرين، من المتوقع أن يبقى عام 2019 عاماً مضطرباً للسياسة الخارجية الأميركية، في وقف يستعد فيه الأميركيون لانطلاق الحملات الرئاسية ومسار الاختيار بين إبقاء ترامب في الحكم أو البحث عن بديل عنه.