لم تمض سوى أيام قليلة على إعلان مليشيات "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) القضاء على تنظيم "داعش" في منطقة "شرقي الفرات"، حتى دعا الجناح السياسي لهذه القوات، التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي، والمعروف اختصارا بـ"مسد"، إلى مؤتمر حوار جديد يناقش مسودة دستور للبلاد، ويحاول وضع خارطة طريق لحل سياسي للقضية السورية، في محاولة جديدة من أطراف كردية لإيجاد موطئ قدم لها في جهود التسوية التي تعمل عليها الأمم المتحدة.
وفي الوقت الذي يتجاهل النظام والمعارضة السورية معا المؤتمرات التي يدعو إليها "مسد"، يرى الأخير أن "الانتصارات العسكرية" التي حققتها "قسد" منذ تأسيسها عام 2015، يجعل منها "لاعبا من الصعب تجاوزه في أي حل سياسي مقبل".
ويستكمل اليوم الخميس في مدينة عين العرب (كوباني) شمالي سورية المؤتمر الثالث الذي يعقده "مجلس سورية الديمقراطية" (مسد)، بشأن الحوار "السوري-السوري"، أعماله تحت شعار "من العقد الاجتماعي السوري نحو العهد الديمقراطي الجديد"، والذي يضم أحزابا وكتلا سياسية واجتماعية وشخصيات مستقلة ونشطاء حقوقيين وصحافيين وممثلين عن المعارضة في الداخل السوري.
وذكرت مصادر في المجلس، الذي يعد ذراعا سياسيا لـ"قوات سورية الديمقراطية"، لـ"العربي الجديد"، أن المؤتمر "يبحث في قضيتين: الأولى المسألة الدستورية والمبادئ الأساسية للدستور السوري المقبل. والقضية الثانية: آليات الانتقال الديمقراطي السوري، بهدف وضع خارطة الطريق للحل السياسي في سورية".
وأوضحت مصادر إعلامية كردية مواكبة للمؤتمر أنه طرحت في جلسات الأربعاء سلة الدستور للنقاش، بعد قراءة نص مسودة سلة الدستور ومبادئ الدستور السوري الأساسية.
وجاء في المسودة أن الهدف هو "بناء نظام القانون والديمقراطية الذي يؤمن أولوية القوانين باعتبارها إرادة الشعب، وتوفير مستوى حياة كريمة للمواطنين في المجالات السياسية والاقتصاد وغيرها بعيداً عن مفاهيم التنميط القوموية والعسكرية والدينية، وإلغاء كافة أشكال التمييز القائمة على أساس العرق أو الدين أو العقيدة أو المذهب أو الجنس".
ومن أبرز المبادئ التي نصت عليها مسودة هذا الدستور أن "سورية جمهورية موحدة ديمقراطية. ذات سيادة وشخصية قانونية، نظامها (مختلط) رئاسي-نيابي. ولا يجوز التخلي عن أي جزء من أراضيها"، وأنه لا يجوز تحديد هوية من يتولى رئاسة البلاد "على أساس انتماء قومي أو ديني".
ومن مبادئ المسودة أيضاً أن "سورية دولة تعددية ومتنوعة قومياً ودينياً. تقوم على فصل الدين عن الدولة، وتصون اللامركزية الديمقراطية هذه التعددية وتعتبر المعيار لها. وتمثل هذه اللامركزية نموذج الإدارة الذاتية في شمال وشرق سورية"، إضافة إلى ضرورة اعتماد "النسبية والتوافقية، وإلى اعتماد نظام الدوائر الانتخابية مع اعتماد اللامركزية الديمقراطية وفصل السلطات الثلاث".
كذلك، تنص المسودة على الاعتراف باللغات الكردية والسريانية والآشورية كلغات رسمية في البلاد، وأن "الجيش السوري هو المؤسسة الوطنية التي تحمي البلاد وتصون استقلالها وسيادتها على أراضيها، ويحرص على الأمن القومي، ولا يتدخل في الحياة السياسية".
وتأتي مسودة الدستور هذه في خضم حراك أممي من أجل تشكيل لجنة دستورية مشتركة بين النظام والمعارضة، ليس لـ"مسد" مكان فيها.
وترفض المعارضة السورية أن يكون حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، أبرز الأحزاب في "مسد"، جزءا منها، وتصر على أن المجلس الوطني الكردي هو الممثل للشارع الكردي المعارض.
ويأتي هذا المؤتمر بعد أيام من إعلان قوات "سورية الديمقراطية" الانتصار على تنظيم "داعش" في منطقة شرقي نهر الفرات، في محاولة واضحة للاستثمار في هذا "الانتصار" من أجل تسويق رؤية أحزاب كردية سورية، أبرزها حزب الاتحاد الديمقراطي للحل في سورية.
ويبحث هذا الحزب عن مكان له في الحراك السياسي القائم، بعد أن اُستبعد من وفد المعارضة المفاوض رغم ضغوط كبيرة مورست على المعارضة التي تتهم هذا الحزب وذراعه العسكرية (الوحدات الكردية) بالقيام بممارسات عنصرية ضد العرب والتركمان في "شرقي الفرات"، والسعي إلى إنشاء إقليم ذي صبغة كردية ربما يفضي إلى تجزئة البلاد.
ويردد هذا الحزب في أدبياته المنشورة أنه يريد "الانتقال من نظام شديد المركزية إلى نظام سياسي لدولة لامركزية ديمقراطية؛ في نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية"، في إشارة إلى "الإدارة الذاتية" التي أقيمت في مناطق سيطرة الوحدات الكردية.
ولا يبدو أن النظام يكترث كثيرا بالمؤتمرات التي يعقدها "مجلس سورية الديمقراطي"، رافضا تقديم تنازلات للجانب الكردي، ما خلا بعض الحقوق الثقافية في مناطقه.
وذكرت مصادر مطلعة في دمشق لـ"العربي الجديد" أن أجهزة النظام الأمنية "نصحت المدعوين إلى مؤتمر عين العرب والموجودين في مناطق سيطرة النظام، بعدم تلبية الدعوة الموجهة لهم لحضور المؤتمر"، ما يؤكد عدم نيّة النظام التجاوب مع مخرجات أي مؤتمر أو اجتماع لا يُعقد وفق شروطه.
وكانت عقدت جلسات (تفاوض) بين النظام و"مجلس سورية الديمقراطي" برعاية روسية، ولكنها باءت بالفشل بسبب رفض النظام تحقيق أي من مطالب هذا المجلس، بما فيها ضم "قسد" إلى صفوف قوات النظام.
ويطالب النظام باسترجاع شرقي الفرات دون شروط مسبقة، في حين يرفض الأكراد ومن حالفهم من مكونات هذه المنطقة من عرب وسريان، عودة الوضع إلى ما كان عليه قبل الثورة السورية عام 2011، معتمدين على دعم التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وأطراف عربية، منها السعودية والإمارات، التي تريد مناكفة تركيا في الشمال السوري من خلال المسألة الكردية.
ويشير بسام اسحق، عضو الهيئة الرئاسية، والرئيس المشترك لممثلية "مسد" في واشنطن، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن موعد المؤتمر "حُدد منذ نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي خلال مجريات المؤتمر الثاني الذي عقد في عين عيسى (بلدة في ريف الرقة الشمالي)، مضيفا: "هذه المرة يعقد في كوباني/ عين العرب لما لها من رمزية كمدينة تمثل بداية دحر الإرهاب".
وتابع: "يصادف توقيت المؤتمر الثالث إعلان النصر العسكري على تنظيم "داعش"، مما يضيف إلى رمزية اللقاء الذي يتميز بحضور أوسع لقوى سياسية سورية من داخل وخارج سورية". ويرى اسحق أنه "من الطبيعي أن نحاول لعب دور بارز في تحديد مستقبل البلاد"، مضيفا: "طموحنا منذ البداية أن نقدم رؤيتنا لسورية الجديدة كدولة تعددية تشاركية لامركزية ديمقراطية ملتزمة بحقوق الإنسان".
وشدد على أن "النجاحات التي حققناها على الأرض، سواء عسكرياً أو إدارياً أو سياسياً، رغم الصعوبات تجعل من مسد/قسد رقماً ولاعباً صعباً لا يمكن تجاوزه، سواء على مستوى الحوار الداخلي، أو الحوار السوري الذي تتبناه الأمم المتحدة"، وفق قوله.
وعن السياق الذي يأتي فيه المؤتمر، قال الباحث السياسي المقرّب من "الإدارة الذاتية" الكردية، إدريس نعسان، في حديث مع "العربي الجديد": "المؤتمر يأتي في سياق الحوار السوري- السوري الهادف إلى بلورة صيغة تفاهم بين السوريين أنفسهم، ليستند إليه حل عادل وشامل يعكس ما يتطلع إليه السوريون جميعاً حول سورية المستقبل".
وأشار نعسان إلى أن المؤتمر "يؤكد على وحدة الأراضي السورية وعلمانية الدولة، والالتزام بحقوق الإنسان وحقوق المرأة، ومفهوم المواطنة الحقيقية، بما يضمن ويصون التنوع الثقافي والاجتماعي السوري الذي يغني البلاد ويمتن الوحدة الوطنية".
وتابع: "وهذا بلا شك سيفضي إلى توضيح حقيقة الأمور والتطلعات بين جميع السوريين المشاركين في المؤتمر، بل ويحمل في طياته رسالة اطمئنان إلى الشعب السوري بكل أطيافه، ويؤكد على أن المؤتمرين يسعون إلى بناء وطن قادر على احتضان التنوع، وليس تقسيم وتفتيت وطنهم كما يروج له الآخرون".
ورفض نعسان فكرة أن "قسد" تحاول استثمار النصر على "داعش" للحصول على مكاسب سياسية، مؤكدا أن المؤتمر "رسالة من محور الإدارة الذاتية و"قوات سورية الديمقراطية" إلى أن مكاسبهم التي حققوها إلى الآن ضد الإرهابيين والمتطرفين هي مكاسب وطنية لجميع السوريين إذا ما أردوا حقاً أن يعتبروها كذلك، وأن شمال شرق سورية هو جزء مهم من الوطن السوري الديمقراطي المتنوع".