أعاد رحيل قائد أركان الجيش الجزائري، الفريق أحمد قايد صالح، النقاش حول طبيعة المواقف التي اتخذها خلال الأزمة السياسية الأخيرة منذ بداية الحراك الشعبي شهر فبراير/شباط الماضي، وصوابية تلك المواقف، من ناحية تمسكه "بالخيار الدستوري"، ورفضه السماح بإطلاق مسار ديمقراطي توافقي من جهة، ومنعه إراقة الدماء خلال عشرة أشهر من المظاهرات من ناحية أخرى، وتلافي أي انزلاق للوضع.
في السابع من مارس/آذار الماضي، جرى تسريب تعليمات وجهها قايد صالح إلى قوات الأمن والشرطة، التي ليست تحت سلطته، باعتبارها تتبع وزارة الداخلية، تتضمن قراراً مشدداً بمنع استعمال الرصاص بشكل تام، أو الدخول في مواجهة مع المتظاهرين في الحراك الشعبي، والذي كان يتوجه حينها إلى جمعته الثالثة. وأعلن قايد صالح لاحقاً عن مرافقة الجيش والتزامه تأمين المظاهرات، تزامناً مع تمسك الحراك بالسلمية وعدم اللجوء الى العنف، وتأسس هذا الموقف على التزام شخصي من قبل قايد صالح ظل يردده خلال مجموع خطابته التي ألقاها في فترة الأزمة حتى الأسبوع الأخير قبل رحيله.
ومثّل هذا الموقف تحولاً لافتاً في سلوك الجيش والمؤسسة الأمنية مع المظاهرات والاحتجاجات الشعبية، بالمقارنة مع محطات سابقة في التاريخ السياسي للجزائر، شهد فيها الشارع مواجهة دامية بين الجيش والشعب، إذ لم يتوان الجيش عن استعمال النار لقمع مظاهرات الربيع الأمازيغي في إبريل/نيسان 1980، وأحداث قسنطينة عام 1986، وفي انتفاضة أكتوبر 1988، حين قتل وأصيب عدد من المتظاهرين، ثم في اعتصام الإسلاميين في ساحة الشهداء وسط العاصمة في يونيو/حزيران 1990، وفي الأزمة الأمنية، وصولاً إلى أحداث الربيع الأمازيغي بين إبريل/نيسان ويونيو/حزيران 2001.
لكن ناشطين معارضين لخيارات الجيش يقدمون قراءة مختلفة في هذا السياق، ويعتبرون أن هناك معطيات مهمة فرضت على الجيش التصرف بهذه الطريقة الهادئة مع الاحتجاجات، إذ إن الحراك هو الذي لم يمنح مبررا لاستعمال العنف من قبل الجيش والأجهزة الأمنية والشرطية، إضافة إلى أن الجيش لم يكن يرغب في تكرار تجربة التسعينيات الأليمة، وقدّر أن كلفة تلك التجربة كانت كبيرة على كل المستويات والفاعلين.
ويعتقد الناشط الحقوقي عبد الغني بادي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن "المرحلة اقتضت عدم التدخل العنفي بتقدير تورط المؤسسة في أحداث تسعينيات القرن الماضي الدامية، وما كلفها ذلك من فاتورة، لذا لم يكن من مصلحتها أن تتدخل بأي طريقة غير سلمية". ويرى بادي أن "الحرص على حقن الدماء هو موقف حكيم في مسار قايد صالح الأمني، غير أن المسار السياسي الذي رسمه لم يكن منتجاً لحل حقيقي".
وبالعودة إلى جملة من خطابات قائد الأركان السابق، فإن تجنب حمام الدم في الجزائر لم يكن فقط بسبب الضمير الأخلاقي والواجب السياسي في حماية الشعب ورفض توجيه البندقية إليه، لكنه كان ينطوي على تقدير سياسي يتعلق بتجنب إحداث أي انقسام في الداخل، أو مضاعفة التوترات التي قد تدفع إلى انهيار كامل للوضع في البلاد، وأكثر من ذلك، منع وتجنب توفير أية مبررات للتدخل الأجنبي في الشأن الداخلي للجزائر، خاصة أن ملف حقوق الإنسان والحريات ظل محل رصد مستمر من قبل عدد من الدول كفرنسا، ومنظمات مدنية دولية.
ويعلق الباحث ومدير كلية العلوم السياسية بجامعة ورقلة، جنوبي الجزائر، البروفيسور قوي بوحانية على ذلك قائلاً إن "عقيدة الجيش الجزائري مرسومة دستورياً وفي القوانين المنظمة لعمل الجيش، لكن التطور البارز والبصمة الشخصية لقائد الأركان الراحل تتعلق بغرس مبدأ مهم هو الاحترافية والتعامل بآلية ضبط النفس، على أن كل انزلاقات خطيرة تحتم بالضرورة التعامل برؤية وآلية جديدة وهي العدالة".