تقترب "الإدارة الذاتية" الكردية في الشمال الشرقي من سورية، أو ما بات يُعرف إعلامياً بشرق الفرات، و"المجلس الوطني الكردي"، من نسج خيوط تعاون وتنسيق عالي المستوى، بعد سنوات من القطيعة التي وصلت حد التخوين المتبادل. ومن الواضح أن التطورات السياسية والعسكرية المتلاحقة، والتحديات التي باتت تهدد الوجود الكردي في سورية، تدفع الكتلتين الكبريين في الشارع السوري الكردي إلى التوحد. وخلطت العملية العسكرية التركية في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما تبعها من اتفاق كردي مع الجانب الروسي، الأوراق في المنطقة التي تضم غالبية الأكراد السوريين، الذين استطاعوا خلال سنوات الحرب تحقيق مكاسب عسكرية جمة يريدون ترجمتها سياسياً من خلال اتفاق مع النظام يضمن حقوقهم، بعد عقود مما يطلق عليه أكراد سورية بـ"التهميش".
وفي بادرة غير متوقعة، أعلنت "الإدارة الذاتية" الكردية "أنه لا عائق قانونياً أمام المجلس الوطني الكردي في سورية من أجل فتح مكاتبه التنظيمية والحزبية، ومزاولة نشاطه السياسي والإعلامي والاجتماعي، دون الحاجة إلى أي موافقات أمنية مسبقة، وذلك في سبيل إزالة كافة العقبات أمام عملية إعادة بناء الثقة بين كافة الفعاليات السياسية والإدارية". وأشارت، في بيان نشر الثلاثاء الماضي، إلى أن خطوتها هذه جاءت "بناءً على المبادرة التي أطلقتها قوات سورية الديمقراطية (قسد) لتوحيد الخطاب السياسي الكردي في سورية، وبناء شراكة فعلية بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي في سورية". وأعلنت "إسقاط القضايا المرفوعة أمام القضاء بحق شخصيات وقيادات المجلس الوطني الكردي المقيمة خارج البلاد، من دون أي استثناء"، مؤكدة أنه "لن تكون هناك أي ملاحقة قانونية لأي سبب سابق لتاريخ نشر هذا البيان". وأشارت "الإدارة الذاتية" إلى نيتها بتسوية ملف السجناء والمغيبين، مؤكدة أنها تسلمت قائمة بعشرة أسماء قدمتها "الهيئة الرئاسية للمجلس الوطني الكردي" في سورية إلى قيادة "قسد" في 15 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. وأضافت "قمنا بتشكيل لجنة مختصة لتقصي الحقائق والتحقيق في الملف، وسنشارك جميع نتائج عمل اللجنة مع المجلس الوطني وقيادة قسد في أقرب وقت ممكن". وكان قائد "قوات سورية الديمقراطية" مظلوم عبدي قد أشار، في تغريدة منتصف الشهر الحالي، إلى استمرار جهود بناء التضامن الكردي بشكل إيجابي في إقليم كردستان العراق، في إشارة منه إلى إشراف قيادة الإقليم على المحادثات التي تجري بين "الإدارة الذاتية" و"المجلس الوطني الكردي".
وتضم "الإدارة الذاتية"، التي أعلن عن تشكيلها في العام 2014، عدة أحزاب سورية كردية، أبرزها "الاتحاد الديمقراطي" الذي يتخذ من "وحدات حماية الشعب" الكردية ذراعاً عسكرية له في شمال شرقي سورية، وعن طريقها يقود "قسد". ويضم "المجلس الوطني الكردي"، الذي تأسس في مدينة القامشلي أواخر 2011، العديد من الأحزاب السورية الكردية. وانضوى "المجلس"، الذي يحتفظ بعلاقات مميزة مع قيادة إقليم كردستان العراق، تحت عباءة الائتلاف الوطني السوري، وهو ما زاد الشرخ بينه وبين حزب "الاتحاد الديمقراطي" المتهم من قبل المعارضة السورية بالقيام بعمليات تطهير عرقي والسعي لتقسيم البلاد.
وأشارت الكاتبة الكردية السورية شمس عنتر، في حديث مع "العربي الجديد"، الى أن "آخر اتفاقية بين الطرفين الكرديين في سورية (الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي) هي اتفاقية دهوك في سبتمبر/ أيلول 2014"، مضيفة "لكن الطرفين المعنيين لم يكونا مهتمين بمطالب الشارع الكردي ومخاوفه، حيث مضت الإدارة الذاتية في سياستها الأحادية الجانب دون مراعاة لهذه الاتفاقية، بينما لم يُفعّل المجلس الوطني الكردي مؤسساته، وبقي يدور في حلقة حزبية دون الالتفات لباقي مكوناته". وتابعت عنتر، وهي رئيسة "اتحاد الكتاب الأكراد"، أن "خمس سنوات مضت دون أن يرفع هذا المجلس من مستوى أدائه حتى أصبح محل سخرية واستهزاء الشارع الكردي، فيما مضت الإدارة الذاتية في تشديد قبضتها على الناس، بحيث تريد أن تفصّل الناس على مقياس فلسفتها".
وأعربت عن قناعتها بأن الأكراد السوريين "يطالبون بوحدة الخطاب الكردي، وبناء شراكة فعلية بين الطرفين المعنيين"، مضيفة أن "المؤشرات تؤكد أن بناء هذه الشراكة حاجة ملحة جداً وضرورة قصوى بسبب الكارثة التي ألمت بمناطق الأكراد، والتي أفرزت الكثير من الضحايا والدمار وهجرة ونزوحاً وتعطيل الحياة بكل معنى الكلمة". ورأت أن "الطرفين يبديان استعدادهما التام للتقارب"، مشيرة إلى أن هذه المبادرة "لقيت المباركة من (الرئيس السابق لإقليم كردستان العراق) مسعود البرزاني". وأعربت عن اعتقادها بأن "التقارب هذه المرة بين الإدارة الذاتية والمجلس الوطني الكردي جدي، وقد ظهرت البوادر بتمهيد الأرضية"، متوقعة أن "يتشكل وفد من الطرفين، وتكون خطوتهما الأولى نحو دمشق تحت مظلة وضمانة روسية للمطالبة بحقوق الأكراد كقومية ثانية في سورية التعددية".
ومن الواضح أن هناك رضى أميركياً على خطوة "الإدارة الذاتية"، وربما دفعت واشنطن "قسد" إلى هذه المبادرة استعداداً لترتيب أوراق الشمال الشرقي في سياق التنافس على المنطقة الغنية بالثروات. وكانت قد جرت جولات تفاوض بين النظام و"قسد" من أجل رأب الصدع في العلاقة التي تجمعهما، والبحث بمصير منطقة شرق الفرات التي تسيطر "قوات سورية الديمقراطية" على معظمها، وتعتبر "سورية المفيدة" كونها تضم أغلب ثروات البلاد النفطية والزراعية والمائية. لكن هذه الجولات باءت بالفشل بسبب إصرار النظام على استلام المنطقة من دون شروط، مستغلاً خوف الأكراد السوريين من الجيش التركي، حيث رفض النظام أن تكون "قسد" جزءاً من قواته كما طرح الأكراد على طاولة التفاوض، كما رفض أن يتحكّم الأكراد بقسم من آبار النفط، مكتفياً بطرح منحهم حقوقاً ثقافية فقط، وهو ما رفضته "قوات سورية الديمقراطية" التي تعتمد على دعم كبير من التحالف الدولي بقيادة أميركا.
ورأى أحد المقربين من "الإدارة الذاتية"، والذي فضل عدم الإشارة إلى اسمه لأنه غير مخول بالحديث علناً، أن هناك العديد من العوامل التي دفعت هذه "الإدارة" إلى تغيير موقفها، مضيفاً، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "توحيد الموقف الكردي لا بد منه، وقد آن أوانه، كما أن الوضع الذي تعيشه المنطقة عامة، وحزب الاتحاد الديمقراطي، يدفع باتجاه توحيد المواقف". وأعرب عن اعتقاده بأن النظام الذي "يتعرض لضغوط كثيرة، خصوصاً التلويح بورقة (قانون) سيزر من قبل الولايات المتحدة، ربما يبدي مرونة ويعطي الأكراد بعض مطالبهم". وأشار إلى أن موسكو وواشنطن أعلنتا أكثر من مرة أنه يجب توحيد الصف الكردي السوري، وكذلك جهود إقليم كردستان واضحة في هذه المسألة. ورأى أنه يجب أن "يتم إنشاء إدارة جديدة أو تحديث الإدارة الحالية، وعودة البشمركة السورية (قوات كردية سورية موجودة في إقليم كردستان العراق) واندماجهم مع قسد، وتشكيل لجنة أو هيئة أو مرجعية كردية عليا، يتم من خلالها الحوار مع النظام أو الائتلاف الوطني السوري أو روسيا"، معرباً عن اعتقاده بأنه "سيكون هناك دعم أميركي لوضع حقوق الأكراد في الدستور من خلال حكم ذاتي أو فدرالية أو إدارة بالشكل الموجود حالياً".
لكن رابطة الأكراد السوريين المستقلين ترى أن التقارب بين "الإدارة الذاتية" و"المجلس الوطني الكردي" يخدم النظام السوري وحزب "العمال الكردستاني"، الذي يعد حزب "الاتحاد الديمقراطي" النسخة السورية منه. وفي هذا الصدد، قال نائب رئيس الرابطة رديف مصطفى، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "أي تقارب مع الإدارة الذاتية دون إعلانها فك الارتباط مع حزب العمال الكردستاني، وإعلان فك الارتباط مع نظام (بشار) الأسد والإعلان عن الانحياز لمطالب الثورة السورية والاعتذار عن الانتهاكات بحق الشعب السوري، هو بالتأكيد يلحق أشد الضرر بالقضية الوطنية السورية بشكل عام والقضية الكردية في سورية خصوصاً". وأشار مصطفى إلى أن القضية الكردية في سورية "قضية وطنية وديمقراطية بامتياز"، مضيفاً "يبدو لي أنه كلما يضيق أفق سياسة حافة الهاوية التي تتبعها الإدارة الذاتية فهي تلجأ إلى استخدام المجلس الوطني الكردي كدرع سياسي مؤقت لحماية نفسها، وبالتالي فهذا التقارب عملياً لا يخدم سوى العمال الكردستاني والنظام، وعلى المجلس الوطني الكردي عدم الانجرار إلى فخاخ قاتلة كهذه".