هل دنت لحظة أفول مشروع الانفصال في الصحراء؟

19 ديسمبر 2019
تعسكر البوليساريو في منطقة تندوف (فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -
مع انطلاق مؤتمرها العام الـ15 اليوم الخميس، تبدو جبهة البوليساريو، الساعية للانفصال عن المغرب في الصحراء الواقعة في القسم الجنوبي من ترابه، أمام تحديات إقليمية ودولية عدة، أهمها تراجع الدعم الخارجي التاريخي لها، ما يجعل المرحلة الحالية تكاد تعتبر الأصعب عليها منذ تأسيسها في بداية سبعينيات القرن الماضي.

فخلال أقلّ من شهر واحد، اضطرت الجبهة، التي تعسكر في منطقة "تندوف" جنوب غرب الجزائر، إلى الدخول في تصعيدٍ ضد كل من المستعمرين السابقين للمنطقة المغاربية، أي فرنسا وإسبانيا. وقد هاجمت القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي الصادر في شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الذي لم يأتِ على ذكر فكرة الاستفتاء التي تتمسّك بها الجبهة. في المقابل، استجاب هذا القرار لمطالب المغرب بتمديد ولاية "بعثة الأمم المتحدة لتنظيم استفتاء في الصحراء الغربية" (مينورسو) لعامٍ كامل بدل ستة أشهر.

هذه التطورات تأتي في سياق يتسم بتسارع وتيرة انكماش رقعة التأييد والاعتراف الذي ورثته جبهة "البوليساريو" الانفصالية عن فترة الحرب الباردة، إذ كانت الدول المنتمية إلى المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي، تدعم المشروع الانفصالي في جنوب المغرب.

وشهد المعقلان الأخيران لـ"البوليساريو" في العالم، أي كل من أفريقيا وأميركا اللاتينية، خلال الفترة الأخيرة، تحوّلات أدت إلى تقليص غير مسبوق في مستوى الدعم الدولي للجبهة، إذ استعاد المغرب مقعده داخل الاتحاد الأفريقي بعد أكثر من 30 عاماً من الغياب والعزلة، في مقابل استفراد "البوليساريو" بهذا المجال. كما سُجّل تهاوي بعض الأنظمة في أميركا اللاتينية التي كانت تدعم مشروع الانفصال في الصحراء سياسياً ومالياً وعسكرياً، أبرزها نظام نيكولاس مادورو في فنزويلا، ونظام إيفو موراليس في بوليفيا، علاوةً على الاختراق الذي حققه المغرب في علاقاته مع كوبا، حيث تبادل معها تعيين السفراء أخيراً، بعد قطيعةٍ طويلة.

وعند إضافة الأزمة السياسية التي يعيشها النظام الجزائري حالياً بفعل الحراك الشعبي الذي أسقط الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ويواصل المطالبة بالتغيير الشامل، والاحتجاجات شبه اليومية التي تعرفها مخيمات "تندوف" وتنامي الغضب تجاه القيادة، تبدو جبهة "البوليساريو" مهددة بفقدان جلّ عناصر الحاضنة الإقليمية والدولية التي سمحت لها برفع السلاح في وجه المغرب، وإبقاء سيادته على الصحراء تحت الدرس داخل الأمم المتحدة. فهل دنت لحظة نهاية مشروع الانفصال؟



بالنسبة إلى المغرب، وفي أعلى مستويات هرم السلطة فيه، أي الملك محمد السادس، فإن الجبهة الانفصالية آخذة في فقدان ما بقي لديها من دعم واعتراف دوليين، وهو ما نجحت الدبلوماسية الجديدة للمغرب في السنوات الأخيرة، والقائمة على تنويع الشراكات واقتحام المجالات التي ظلت تعتبرها معادية، في تسريع وتيرته.

وفي خطابه السنوي الأخير بمناسبة المسيرة الخضراء، أي المسيرة الشعبية التي نظمها والده الملك الراحل الحسن الثاني الذي عبّأ 350 ألف مدني في نوفمبر/ تشرين الثاني 1975 للسير نحو الصحراء التي كانت تحتلها إسبانيا، قال الملك المغربي إن مبادرته الخاصة بمنح الصحراء حكماً ذاتياً في إطار السيادة المغربية، هي السبيل الوحيد للتسوية، خصوصاً أن عدد الدول التي لا تعترف بجبهة "البوليساريو" أصبح يفوق 163 دولة.

الأيام الأخيرة شهدت تحوّلاً في علاقات الجبهة الانفصالية بمحيطها الإقليمي والدولي، إذ صدر تحذير رسمي من الخارجية الإسبانية، ينصح بعدم التوجّه إلى المنطقة التي توجد فيها مخيمات "البوليساريو"، باعتبارها أصبحت شديدة الخطورة وتشهد تنامياً للأنشطة والتنظيمات الإرهابية. التحذير صدر بالتزامن مع وجود وزير الخارجية المغربي ناصر بوريطة في مدريد، حيث حظي بحفاوة استقبال، تمثلت بلقائه رئيس الحكومة بيدرو سانشيز، إلى جانب لقاءات رسمية أخرى.

هذا التحذير دفع جبهة "البوليساريو" إلى الرد، باعتباره يتزامن مع فترة تحضيرها لتنظيم مؤتمرها العام الـ15، الذي أعلنت أخيراً قرارها تنظيمه داخل الأراضي المتنازع عليها، وتحديداً في المنطقة الواقعة شرق الجدار الأمني الذي بناه الجيش المغربي، التي تعتبرها الجبهة منطقة "محرّرة". هذا الاختيار القائم على دخول المنطقة المتنازع عليها مع المغرب، كان يرمي إلى اتخاذ موقف هجومي تجاه المغرب، وامتصاص الغضب والمعارضة الداخليين لقيادة الجبهة، عبر تقديم مكان عقد المؤتمر كإنجاز تحقق على حساب المغرب. إلا أن التحذير الإسباني كسر هذا المنحى، وأجبر "البوليساريو" على اتخاذ موقف دفاعي، بعدما باتت مهددة بتقليص حجم الحضور الأجنبي في مؤتمرها.

رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الجبهة، والمنسق مع بعثة الأمم المتحدة في الصحراء، أمحمد خداد، هاجم قبل أيام، التحذير الإسباني، ورأى أنه غير مبرر ويعكس "تواطؤ الحكومة الإسبانية مع المغرب الذي يعيش على وقع مشاكل كبيرة على مستوى الداخل، والقلق البالغ من القرارات التي سيتخذها المؤتمر الخامس عشر لجبهة البوليساريو المنعقد في بلدة تيفاريتي". وفي محاولة لقلب الأوضاع، حمّل خداد المغرب "المسؤولية الكاملة والمباشرة عن أي عمل إرهابي ضد مخيمات اللاجئين الصحراويين أو محيطهم".

أهمية معطى الاصطدام بين "البوليساريو" وإسبانيا، تكمن في أن العلاقات بينهما تختلف عن بقية الارتباطات الخارجية للجبهة الانفصالية. وإذا كان بيان "البوليساريو" الصادر قبل أقل من شهر لمهاجمة فرنسا، باعتبارها مسؤولة بحسب الجبهة عن حذف مطلب الاستفتاء من قرار مجلس الأمن الدولي الأخير، أمراً معتاداً، فإن اضطرار الجبهة الانفصالية إلى المواجهة مع مدريد يعني حدوث تحوّل كبير، حيث كانت الأخيرة تاريخياً مصدر دعم وتعاطف واضحين لها.

فالمغرب كان في سنوات المواجهة الأولى حول الصحراء، قد اتهم مدريد رسمياً بالوقوف وراء تأسيس جبهة "البوليساريو" الانفصالية، بهدف منعه من استعادة صحرائه التي كانت تحتلها إسبانيا. وعلى الرغم من انتقال مهمة الدعم المباشر للجبهة الانفصالية إلى الجزائر، ومعها ليبيا في بعض المراحل، فإن دعماً خاصاً ظلّت "البوليساريو" تحصل عليه من داخل إسبانيا، حيث توجد كثير من الأحزاب والجمعيات، اليسارية على الخصوص، التي تتبنى المشروع الانفصالي في الصحراء.

وتتزامن هذه التطورات مع استعادة المغرب للمبادرة في العلاقة بالإدارة الأميركية، إذ كانت استقالة مستشار الأمن القومي للرئيس دونالد ترامب، جون بولتون، في شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، لحظة تحوّل جديد لمصلحة الرباط. فبولتون الذي يحمل تاريخياً مواقف تخدم مصالح جبهة "البوليساريو" الانفصالية، كان وراء تقليص مدة ولاية بعثة الأمم المتحدة في الصحراء من عام إلى ستة أشهر، بهدف الضغط على المغرب. خطوة جاء القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي، الصادر نهاية أكتوبر/ تشرين الأول، ليضع لها حداً نهائياً، مع دخول العلاقات المغربية الأميركية في دينامية ونشاط استثنائيين.

وإذا كانت المصالح المغربية تلتقي مع نظيرتها الأميركية في ما يجري من تحولات في منطقة أميركا اللاتينية، وهو ما يفسّر مسارعة المملكة إلى الاعتراف بخوان غوايدو رئيساً لفنزويلا بدلاً من نيكولاس مادورو، فإن النهج الدبلوماسي الجديد للمملكة شهد طفرة في السنوات الأخيرة. ويقيم المغرب حالياً علاقات رسمية مع الدول التي تعترف بالبوليساريو، ويؤسس لمصالح اقتصادية مشتركة معها، تمهيداً لتغيير مواقفها السياسية في موضوع الصحراء، وهو ما حدث مع بعض من دول أميركا اللاتينية.

من جهة أخرى، بدأت ثمار عودة المغرب إلى شغل مقعده داخل الاتحاد الأفريقي، في يناير/كانون الأول 2017، تؤتي ثمارها في تعزيز الموقف المغربي. فالمملكة أصبحت عضواً في مجلس الأمن والسلم الأفريقي، واستطاعت استصدار قرار من قمة نواكشوط صيف 2018، ينص على اعتراف الاتحاد الأفريقي بأولوية المسار الذي تقوده الأمم المتحدة في حلّ النزاع. بل إن الدبلوماسية الهجومية للمملكة على معاقل "البوليساريو"، توّجت أخيراً بالتحاق سفير المغرب بعاصمة جنوب أفريقيا بعد فراغ دام سنوات، ومن هناك انتزعت المملكة انتخاب أحد ممثليها رئيساً للمنظمة العالمية للمدن والحكومات المحلية المتحدة. فجنوب أفريقيا تعتبر واحداً من المعاقل الأخيرة للاعتراف بالبوليساريو في أفريقيا، وأي اختراق مغربي في هذه العاصمة الوازنة، سيعني بالتبعية زوال اعتراف الدول التي تدور في فلك جنوب أفريقيا، بالجبهة الانفصالية.