وتزامنت التطورات السياسية مع تواصل التظاهرات العراقية في مدن جنوب ووسط العراق وبغداد، رغم قساوة الأحوال الجوية والتصعيد في عمليات الخطف والاغتيال في صفوف الناشطين، حيث ارتفع عدد الناشطين الذين قتلوا إلى أربعة هذا الأسبوع، مع ثلاثة آخرين نجوا من محاولات اغتيال، أحدهم بحالة حرجة، فضلاً عن ارتفاع عدد المختطفين في بغداد وكربلاء والنجف وميسان والناصرية إلى 23 ناشطاً خلال الأسبوع الحالي. يأتي ذلك على وقع تسريبات من دوائر ضيقة داخل المنطقة الخضراء بقرب صدور قائمة عقوبات أميركية جديدة على عدد من السياسيين والمسؤولين العراقيين وشخصيات مليشياوية، لم تستبعد أن يكون بينها رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي، وقائد أمني بارز في جنوب العراق، بتهمة قمع التظاهرات وانتهاكات حقوقية وعمليات فساد، بينها تبييض أموال لصالح إيران.
وفشلت المشاورات التي استمرت لساعات، أمس، في تأمين انعقاد جلسة مجلس النواب التي تم تأجيلها "حتى إشعار آخر"، نتيجة تعثر حسم الخلافات بشأن قانون الانتخابات الجديد، والتوصل إلى اتفاق حول بعض بنوده المهمة، خصوصاً تلك التي تجد فيها كتل وأحزاب سياسية أنها تهديد لمستقبلها السياسي. وتتركز الخلافات الحالية على عدة بنود، أبرزها ثلاثة، وهي طريقة احتساب الأصوات والدوائر الانتخابية المتعددة او الدائرة الواحدة ومنع المسؤولين الحاليين من الترشح للانتخابات المقبلة، وكذلك تصويت عراقيي الخارج والنازحين، وأخرى تتعلق بطريقة الاقتراع إلكترونية أم يدوية. ويطيح مشروع القانون الجديد للانتخابات أحد أبرز عوامل بقاء الأحزاب والوجوه السياسية الحالية بعد إلغاء الطريقة القديمة لاحتساب الأصوات وفقاً لما تعرف بطريقة "سانت ليغو" التي كانت تعتمد قاسماً انتخابياً مرتفعاً يضمن هيمنة الأحزاب الرئيسية على البرلمان وبالتالي الحكومة.
وتحارب قوى سياسية، أبرزها حزب الدعوة الإسلامية، والحزب الإسلامي العراقي، وهو الجناح السياسي لجماعة "الإخوان المسلمين" في العراق، وبدر، والفضيلة، وعطاء، والمجلس الأعلى، وقوى كردية من أجل تمرير مشروع القانون بصيغة المناصفة، من خلال 50 في المائة تذهب لأعلى الأصوات والخمسين في المائة الأخرى تكون وفقاً لقاسم انتخابي مرتفع لمرشحي الأحزاب والقوى السياسية الحالية، وهو ما ترفضه كتلة الصدر، والحزب الشيوعي العراقي وتيار الحكمة وتيارات مدنية، عدا عن المتظاهرين في الشوارع.
وقال عضو الحزب الشيوعي العراقي علي الصافي، لـ"العربي الجديد"، إن تمرير مشروع قانون "يكون فيه الفائز من يحصل على أعلى عدد للأصوات سيكون إنجازاً تاريخياً للحراك العراقي، وقد لا نرى كثيراً من الوجوه الحالية في الانتخابات المقبلة". وأضاف "القانون السابق كان مفصلاً على مقاس الأحزاب، فزعيم الحزب أو القائمة حتى لو لم ينتخبه 10 أشخاص فإنه سيفوز من خلال جمع جميع الأصوات التي أتت لمرشحي قائمته الانتخابية، وقاسم سانت ليغو الانتخابي خير شاهد على ذلك. لهذا تجد أن السؤال بعد كل انتخابات برلمانية من انتخب هذا؟ أو هل يعقل أن هناك من انتخب هذا؟ ويصار إلى ربط هذا الأمر بتزوير الانتخابات أو القاسم الانتخابي السيئ". واعتبر أن "تمرير القانون من دون منعطفات أو فخاخ، وبشكل واضح، سيكون إنجازاً ونقطة تحول، لا يمكن التقليل من شأنها، وسيكون أهم من منجز إسقاط المتظاهرين للحكومة".
نائبان في البرلمان العراقي ومسؤول في حكومة تصريف الأعمال أكدوا بدورهم "استمرار مشاورات الكتل السياسية للتوصل إلى مرشح تسوية مقبول من جميع الأطراف". ورجح أحدهم أن "يتم التوصل إلى اسم قبل انتهاء المهلة، وذلك بعد الاتفاق الأولي على أن هذه الحكومة ستكون مؤقتة وبطاقم وزاري محدود، لحين ترتيب أجواء انتخابات عامة في العراق، حيث باتت عدة كتل تزهد بالمنصب غير تحالف سائرون، بزعامة مقتدى الصدر، الذي تنازل عن حقه بالترشيح، ويأخذ اليوم دور الضاغط غير المشارك بالحكومة المقبلة". وأضاف "هناك مؤشرات واضحة من النجف (مرجعية رجل الدين علي السيستاني)، بقبول خيار الذهاب لانتخابات مبكرة، بعد تهيئة الأجواء لها، بشرط وجود قانون انتخابي واضح لا يتضمن أي امتيازات لصالح الأحزاب الحالية، وتسمح بفوز من يحصل على أعلى عدد من الأصوات خلال الاقتراع". وأكد أن الساعات الماضية شهدت اعتذار عدة أسماء لتولي رئاسة الحكومة المؤقتة، بينهم رئيس مجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، وجنرال متقاعد نال شهرة واسعة في معارك تحرير المدن العراقية من تنظيم "داعش"، ويحظى بقبول شعبي.
يأتي ذلك مع تداول معلومات داخل المنطقة الخضراء تتحدث عن قرب صدور عقوبات أميركية جديدة بحق مسؤولين عراقيين بتهمة قمع التظاهرات والإضرار بالمال العام، بينها تعاملات مشبوهة مع إيران. ويجرى طرح اسم رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي بينهم، بالإضافة إلى مسؤول أمني جنوب العراق وشخصيات في مليشيات عراقية، دون التأكد من دقة تلك التسريبات.
ميدانياً، بدأ المتظاهرون العراقيون في بغداد ومدن جنوب ووسط العراق التحشيد مبكراً لجمعة جديدة يهدفون فيها إلى مليونية حاشدة في ميادين التظاهرات الرئيسية للتأكيد على سلمية الحراك، والتنديد بالقمع، ومطالبة السلطات بالكشف عن نتائج التحقيق بمجزرة السنك، التي وقعت يوم الجمعة الماضي، والمليشيات التي تقف وراء قتل الناشطين واختطافهم. وارتفع عدد الناشطين المختطفين خلال الأسبوع الحالي إلى 23، غالبيتهم في بغداد وكربلاء، كما ارتفع عدد ضحايا عمليات الاغتيال في صفوف الناشطين إلى 4 في كربلاء وبغداد وميسان، بينما أصيب 5 خلال محاولة اغتيالهم، أحدهم بحالة حرجة. ووفقاً لعضو التيار المدني العراقي في النجف عقيل الموسوي فإن "التظاهرات في عموم العراق تواجه صفحة جديدة من القمع. فبعد الضغط الدولي على الحكومة لوقف العنف، تبنت جماعات مسلحة المهمة من خلال الخطف والتصفية الجسدية والترهيب برسائل التهديد". وأضاف أن "المتظاهرين لا يمكن لهم تقديم دليل عن المتورطين بتلك الجرائم، لكن بالتأكيد الحكومة والأحزاب يعلمون ذلك كونهم قريبين منهم".
وشيع متظاهرو ساحة التحرير، مساء أمس الأربعاء، جثمان علي اللامي، وهو مدون وكاتب قصة قصيرة من أهالي مدينة الكوت جنوب العراق، ونشط في التظاهرات ببغداد، حيث اختطف مساء الثلاثاء الماضي بعد مغادرته ساحة التحرير وسط العاصمة، ووجدت جثته في حي الشعب شرقها بعد ساعات، وقد أعدم رمياً بالرصاص. يأتي هذا بعد يوم من اغتيال الناشط الكربلائي البارز فاهم الطائي وسط مدينة كربلاء ونجاة زميل له يدعى إيهاب جواد في المدينة من محاولة اغتيال مماثلة تسببت له بإصابات بالغة. وأكد ناشطون حقوقيون اختطاف ثلاثة ناشطين بعد خروجهم من ساحة التحرير ببغداد، وهم أمير الأسدي وأحمد الدليمي وعلي كاظم، ليرتفع عدد ضحايا الاختطاف خلال الأسبوع الحالي إلى 23 ناشطاً أغلبهم من بغداد وكربلاء. وكان قد عثر على أحدهم، وهو ناشط يعمل مسعفاً في بغداد وتم اختطافه قبل يومين وقد تلقى عدة طعنات في جسده وتعذيباً أفقداه الوعي. وبحسب مصادر طبية فإن الناشط محمد غسان موجود حالياً في العناية المركزة.
وفي ساحة التحرير، نشر متظاهرو بغداد، أمس الأربعاء، بياناً موحداً مع ساحات أخرى جنوب العراق، أعلنوا فيه أنهم "ماضون في استرجاع الوطن". وأضاف البيان "كل يوم احتجاجي نذرف فيه الكثير من الدماء والدموع ونفقد فيه الرفقة والأصدقاء، من أصحاب المواقف النبيلة والمشرفة، في مختلف مدن بلدنا الحبيب، التي تشهد صراعاً سلمياً من أجل استعادة ما سلبه منا الظالمون". وتابع "بعد صبر وعزيمة استطعنا أن نسقط حكومة القتل بالقنص، وبعد المشاورة وجدنا من الأهمية أن نحدد مواصفات رئيس الوزراء العراقي الذي سيستلم دفة الحكم في المرحلة القادمة (الانتقالية) الممهدة للانتخابات المبكرة، كون المرحلة القادمة حساسة وستحدد مصير أمة". وسرد البيان عدداً من تلك الشروط، أبرزها أن "يكون مستقلاً وغير منتمٍ لأي حزب أو تيار ومن غير مزدوجي الجنسية، ولم يكن مسؤولاً في السابق ولا برلمانياً، وعمره أقل من 55 سنة، وأن يتعهد بعدم الترشح للانتخابات المقبلة، وأن يكون نزيهاً وشجاعاً، ولا توجد لديه سوابق أو شبهات فساد، ويلتزم بتنفيذ مطالب الثوار في ساحات الاعتصام. وأخيراً أن يكون قراره عراقياً مستقلاً لا يخضع لضغوط الكتل السياسية أو للتدخلات الخارجية". وشهدت مدن في جنوب العراق تلاوة البيان ذاته، ما يعكس تنسيقاً واضحاً بين متظاهري مختلف المحافظات والمدن العراقية.