على نحو مشابه تبدو سيرة الرئيس اليمني الانتقالي عبد ربه منصور هادي، بداية من الاستفتاء الذي حصل في اليمن لاختياره رئيساً انتقالياً لمدة سنتين في العام 2012 بعد توافق الأطراف السياسية كافة عليه عقب قرار الرئيس الراحل علي عبد الله صالح ترك منصب الرئاسة بعد ثورة فبراير 2011. ومنذ ذلك التاريخ، ظهر أنّ هادي يحاول مدّ الوقت لأطول فترة ممكنة كي يبقى في منصبه "الانتقالي". وفي الوقت نفسه السماح لنجله الأكبر جلال ببسط سيطرته على أمور الدولة، ليبدو ذلك كنسخة ثانية مما كان يجري بشأن أحمد نجل علي عبد الله صالح، وهو الأمر الذي كان من أهم أسباب قيام ثورة فبراير.
المرحلة التالية التي أصرّ هادي على المضي بها هي تفكيك تركة صالح وعائلته. أصدر قرارات بتعيين نجل صالح، أحمد، وأبناء أخيه في مناصب دبلوماسية خارج اليمن. وكان لهذا أن يمنحهم حصانة من الملاحقات القانونية ضدهم، تماشياً مع الحصانة التي منحتها المبادرة الخليجية (نوفمبر/تشرين الثاني 2011) للرئيس الراحل، وكان هذا الأمر نقطة جدل في مجالس حقوقية دولية رفضت ما آل إليه وضع عائلة صالح والحصانة التي نالوها. وتبين أنّ المخاوف في مكانها، لأنّ صالح وظّف الحصانة وما حققه من مكاسب سياسية عبر المبادرة الانتقالية، لتقويض حكم هادي، عن طريق جماعة "أنصار الله" (الحوثيين)، مستفيداً من أنه أدرى الناس بهادي وبحدود قدرته ورغبته في المواجهة.
بالفعل ذهب هادي، منذ الاختبار الأول، بعيداً في عملية "التسوية" مع جماعة الحوثي وأتاح لهم دخول مدينة عمران (شمال صنعاء) قبل دخولهم إلى العاصمة. وقّع معهم اتفاقية الشراكة والسلم، وهو يعتقد بأنّ ذلك سيكون كافياً لبقاء سلطته على العاصمة، لكن أتت رياح الحوثي بما لا تشتهي أهواء هادي. تمّت محاصرته في القصر الرئاسي الخاص به في يناير/كانون الثاني 2015 من قبل عناصر "أنصار الله" ومن بعدها بوقت قصير تمّت عملية خروجه وفراره إلى عدن.
خلال كل تلك الفترات، كان الرئيس اليمني يحاول الحفاظ على وجوده في المنصب الأول مهما كلّف الأمر. وحتى بعد فراره إلى العاصمة السعودية الرياض ومكوثه فيها منذ 25 مارس/آذار 2015 إلى اليوم، لم يتخل الرئيس الانتقالي عن رغبته في البقاء على كرسي رئاسة البلاد ولو كان ذلك وهو مقيم خارج اليمن، ويمنع من العودة إليه إلا بإذن سعودي أو إماراتي، وصولاً إلى مرحلة توقيعه "اتفاق الرياض" الذي أعاد "الجماعة الانقلابية" بحسب ما كان هادي يُطلق عليها، وهي الممثلة بـ"المجلس الانتقالي الجنوبي" المدعوم إماراتياً، وأدخلها في سياق "الشرعية". وهو الاتفاق الذي يتضح من خلاله، ولو على نحو ظاهري، بأنّ جميع القوات العسكرية المنتشرة في الجنوب ستكون تحت إمرة المملكة العربية السعودية، أيّ أنها ستنتقل من يد قوات ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، إلى يد قوات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان. فلا مكان لسلطة هادي هنا، أو على الأقل، تقلّصت بقدر إضافي عمّا كانت عليه قبل التوقيع على الاتفاق.
إضافة إلى ذلك، لقد أتت جماعة "المجلس الانتقالي" لتكون شريكة في كل شيء من الآن وصاعداً، وعلى وجه الخصوص في أي مسألة تفاوض مقبلة حول مستقبل اليمن بكامل أقاليمه، بما في ذلك مفاوضات سلام منتظرة مع جماعة "أنصار الله". فاتفاق الرياض ينصّ على "تشكيل حكومة كفاءات سياسية لا تتعدى 24 وزيراً يعيّن الرئيس (أي هادي) أعضاءها بالتشاور مع رئيس الوزراء والمكونات السياسية (بما في ذلك المجلس الانتقالي) على أن تكون الحقائب الوزارية مناصفة بين المحافظات الجنوبية والشمالية". وحتى تعيين محافظ عدن، أي العاصمة المؤقتة، لا يمكن لهادي القيام به من دون مسألة "التشاور".
في السياق، يقول الصحافي اليمني المُقيم في القاهرة، فتحي أبو النصر، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "تاريخياً، جاء هادي كعسكري من أبين، وهي شوكة جنوب اليمن المنافسة للضالع في الصراع القروي والقبلي على عدن"، مضيفاً "ذهب لبريطانيا ثمّ للاتحاد السوفيتي، فتشرب الثقافتين كما يفترض سياسياً وذهنياً... والحال أنه حيّر الجميع بمواقفه في أكثر من مرحلة عاصفة". وبالنسبة لأبو النصر، فإنّ "شخصية هادي الغامضة، لا تجعلك تتنبّأ بما سيفكر به بعد قليل". وعلى الرغم من هذا الغموض، يستدرك أبو النصر بالقول "لكن مع ذلك فهو الثعلب، وآخر مظاهر الدولة اليمنية الوحدوية على الرغم من مفاسد نظامه المصطبغ بنظام سابقه". ويتساءل أبو النصر عمّا إذا كان هادي "لا يزال يمتلك غطاءً دولياً وإقليمياً كما كان سابقاً".
والسؤال هنا من يؤازر هادي اليوم؟ يجيب أبو النصر: "ما بعد ثورة 2011 صار هادي رجل الحظوظ والمصادفات السعيدة والعجيبة… الرجل التوافقي للرئاسة الانتقالية المزمنة. حدثت فعاليات مؤتمر الحوار الوطني برعاية أممية ومباركات إقليمية، طالت فترته وتعثرت المرحلة الانتقالية، ثمّ جاءت الحرب بكل لهبها. لكن من يُشعِر هادي، المضغوط عليه والمستفيد من الأوضاع العالقة، بأن شرعيته ليست بالتخلي عن السيادة واستعادة الدولة؟". ويوضح أبو النصر أنّ "الرئيس هادي لعب على التناقضات كثيراً ومصالح الأحزاب والشلل في البلاد، فيما أتت اتفاقات متوالية منذ 2011 لتزيد الأوضاع تعقيداً، وها هو اليمن عالق مثل الرئيس هادي بالضبط".
من جهتها، تقول الباحثة الفرنسية في الشؤون اليمنية سيلين إلهام جريزي، إنّ "هادي يعي تماماً أنه لا يحكم اليمن وأنه مسيّر لا مخيّر، فهو غير قادر على اتخاذ اَي قرار بمفرده وبمعزل عن دول التحالف العربي. وهو يدرك أنّ أي خطوة مخالفة لما يملى عليه قد تكلفه أكثر من الكرسي الملغم وغير المريح الذي حاول ويحاول التشبث به". وتضيف جريزي في حديث مع "العربي الجديد"، إنّ "الجميع يستغرب من عدد القرارات السريعة والمفاجئة التي يصدرها بشأن مناصب حساسة، من دون إجراء أي تغيير ملموس، لا بل إعادة تدوير الفساد بدلاً من إصلاحه". وتتابع: "أنا لا أفهم عن أي صلاحيات نتحدث هنا ولا من حددها وكم مدتها؟ لقد انتُخب هادي كرئيس لفترة انتقالية، وها نحن نجده وبعد ست سنوات لم ينتقل فيها إلا من فندق لغيره في العاصمة الرياض، بينما الشعب اليمني يرزح تحت وطأة فساد قراراته وسوء تدبيره".
ولدى سؤالها عن اتفاق الرياض الأخير وهل قام هادي بتوقيعه كي يواصل البقاء على الكرسي، تقول سيلين إنّ "هادي ليس من يُقرّر، هو مجرد ورقة في يد الآخرين، الكل أصبح ورقة بيد الكل، وخيوط الدمى التي يتلاعب بها أكثر خطورة من الرقص فوق رؤوس الثعابين".