الجزائر: عصيان تاريخي للقضاة

01 نوفمبر 2019
انطلق عصيان القضاة من مطالب مهنية (العربي الجديد)
+ الخط -
كسر القضاة في الجزائر أخيراً قاعدة الصمت، وأعلنوا العصيان على السلطة الحاكمة للمرة الأولى منذ ستة عقود. وتأتي هذه المواجهة السياسية والقانونية بين القضاة والحكومة، الأولى من نوعها، على خلفية مقررات تحويلٍ ونقل شملت نصف الجسم القضائي، أي في حدود ثلاثة آلاف قاضٍ، اتخذها وزير العدل بلقاسم زغماتي، الذي يُطالب القضاة برأسه. وتضرب هذه الحركة التي وصفت بالعصيان، والتي بدأت يوم الأحد الماضي بمطالب مهنية، عمق النظام السياسي الجزائري، وتخصّ ذراعه التي كان يستخدمها للملاحقة والتصفية السياسية لخصومه، أفراداً أو تنظيمات مدنية وسياسية. وأمس الخميس، واصل القضاة الجزائريون عصيانهم، حيث استمر شلّ المحاكم والمجالس القضائية لليوم الخامس على التوالي. وتجمع القضاة أمام مقر المحكمة العليا، حيث كان وزير العدل يشرف على تنصيب 102 من قضاة المحكمة. وطالبت نقابتهم الوطنية رئيس الدولة عبد القادر بن صالح بالتدخل بصفته رئيس المجلس الأعلى للقضاء لإنهاء الانسداد، بعد فشل اجتماع لممثلين عنهم مع مسؤولين من الوزارة مساء الأربعاء. ويلفت القضاة الى أن وزير العدل نفسه في وضعٍ غير دستوري، على اعتبار أنه عُيّن من قبل رئيس الدولة قبل ثلاثة أشهر، على الرغم من أن المادة 104 من الدستور تمنع رئيس الدولة المؤقت من إجراء أي تعديل على الحكومة أو إقالة وتعيين الوزراء في فترته المؤقتة.


وبدأ عصيان القضاة يتطور على صعيدين متزامنين: توقف العمل في المحاكم بالكامل، إذ لا يزال القضاة يشلّون المحاكم الجزائرية بعدما بلغت نسبة الاستجابة لقرار الإضراب حدود 98 في المائة. وفي التوازي، يستمر هؤلاء في تنظيم وقفات احتجاجية يومية أمام المحاكم والمجالس القضائية، مع فشل اجتماع وفدٍ من النقابة ومسؤولين مركزيين في وزارة العدل في إقناع القضاة بالعدول عن موقفهم المطالب بالإلغاء الفوري لحركة النقل، والذهاب بدلاً منه إلى تقديم طعون ضد هذا الإجراء في إطارٍ منظم. ورفض وفد القضاة المقترح، متمسكاً بضرورة الاستجابة لكتلة المطالب من دون تجزئة، بعدما كانت نقابته دعت الثلاثاء في بيانٍ شديد اللهجة وزير العدل الى الكفّ عن محاولات التهديد، ووصفته بالرجل غير الكفؤ، دون أن يرد ذكره بالاسم. واعتبر البيان أن "مهام إدارة الشأن العام تستوجب دوماً الكفاءة، مع تقديم الصالح العام على الطموحات الشخصية بعيداً عن العنتريات الزائفة، بما يفرزه من احتقان يهدد الاستقرار الاجتماعي"، مطالباً القضاة بـ"عدم تنفيذ التعليمات المركزية غير المدروسة الصادرة عن تخبط ومكابرة مدمرة". وتوحي هذه اللهجة بوجود قطيعةٍ تامة بين النقابة ووزير العدل الذي عُيّن في هذا المنصب قبل شهرين، وأبدى بحسب القضاة مكابرةً سياسية، موجهاً للقضاة اتهامات كبيرة في خطابه الأخير أمام البرلمان، وصلت إلى حدّ وصمهم بالفساد.

لكن التطور الأبرز في عصيان القضاة، هو اتخاذه أبعاداً ومطالب سياسية تتعلق برفع الوصاية السياسية عن القضاء، والفصل بين السلطات بشكلٍ فوري، من دون انتظار تعديلٍ لاحق للدستور. وأعلنت نقابة القضاة في لائحة مطالبها المركزية أن "استقلالية القضاء مطلبٌ أساسي يتعين تكريسه فوراً، وممارسته في أرض الوقائع بعيداً عن الشعارات الجوفاء".

ويعاني القضاء الجزائري من تبعيةٍ للسلطة التنفيذية، إذ ينصّ الدستور على أن رئيس المجلس الأعلى للقضاء هو رأس السلطة التنفيذية، أي رئيس الجمهورية، ويمكنه تفويض ذلك لوزير العدل. وحرصت السلطة خلال كل مشاريع إصلاح العدالة، بما فيها المشروع الذي أطلقه الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 2002 في هذا الصدد، على إبقاء هيمنتها على الجسم القضائي.

وشرح القاضي عبد الله هبول، الذي تعرض للملاحقة والعزل بسبب مواقفه المعارضة، أن جهاز القضاء الجزائري ظلّ مجرد أداة يستخدمها النظام لتصفية خصومه السياسيين والمعارضين، سواء كانوا أفراداً أو تنظيمات سياسية ومدنية"، معتبراً أن هذا السبب المركزي "يقف وراء حرصها على إبقاء العدالة ملحقة بمنظومة الحكم لا سلطة مستقلة". ورأى هبول أنه "لا يمكن الحديث مطلقاً عن استقلالية العدالة في الجزائر، طالما أن الدستور والقانون ذاته يكشف عن تناقضٍ واضح مع هذا المبدأ، عندما يُسند رئاسة مجلس القضاء الأعلى الذي يُسير المسار المهني للقاضي، الى رأس السلطة التنفيذية".

وبالعودة الى العلاقة بين نقابة القضاة والحكومة، فإن التاريخ السياسي في الجزائر لم يشهد سوابق للصدام الحالي، عدا حالة عابرة وقعت في أكتوبر/تشرين الأول 2003، عندما نجحت السلطة في القيام بانقلاب على رئيس نقابة القضاة محمد رأس العين، بسبب مواقفه ضد السلطة وبوتفليقة، على خلفية ممارسة الأخير ضغوطاً على العدالة لاتخاذ قرار بإلغاء مؤتمر كان قد عقده الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني ورئيس الحكومة حينها، علي بن فليس. وكان بن فليس يومها قد أعلن انشقاقه عن الرئيس الجزائري، ويتحضر للترشح لمنافسته في الانتخابات الرئاسية التي جرت في إبريل/نيسان 2004. ووصف رأس العين، الذي كان يرأس نقابة القضاة حينها، ما حدث بـ"عدالة الليل". لكن نقابة القضاة عادت بعدها الى بيت الطاعة، إلى غاية اندلاع الحراك الشعبي في فبراير/شباط الماضي، ما شجع القضاة على اتخاذ موقفٍ داعمٍ للحراك بإعلان رفضهم الإشراف على الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 18 إبريل/نيسان الماضي قبل أن يتم إلغاؤها، باعتبار أن أكثر من 200 قاض هم أعضاء في هيئة مراقبة الانتخابات، وأكثر من ألفي قاض يرأسون اللجان الولائية والبلدية للانتخابات. وإذا كانت الظروف السياسية والحراك الشعبي للقضاة قد وفرت مناخاً مساعداً على التمرد ورفع المطالبة السياسية والمهنية دون تردد أو خوف، فإن الانقلاب الذي حصل داخل نقابة القضاة في شهر إبريل/نيسان الماضي، ونجاح القضاة المنتمين الى نادي القضاة الأحرار ذي التوجهات المعارضة، أتاح فرصةً أكبر للقيام بحركة سياسية ضد هيمنة السلطة على القضاة والمؤسسة العدلية.

ويعتقد ناشطون سياسيون أن معركة القضاء، وبغضّ النظر عن منطلقها من مطالب فئوية تخصّ القضاة، فإنها تحمل أهمية كبيرة، وستترك تداعياتها على المشهد السياسي في البلاد.

وفي هذا الإطار، اعتبر منسق مؤتمر المعارضة، وزير الاتصال الأسبق عبد العزيز رحابي، في تقدير موقف، أن "انتفاضة القضاة ضد هيمنة السلطة التنفيذية على العدالة، تمثل منعرجاً حاسماً في مواكبة الحراك الشعبي المبارك، الذي ينادي دون انقطاع بتحرير العدالة كشرطٍ مسبق لإرساء دولة القانون". ورأى رحابي أن "القضاة أمام فرصة لا تُعوض للحسم نهائياً في إشكالية الفصل بين العدالة والسلطة التنفيذية البوتفليقية التي وظفت العدالة في السياسة لتوفير الحصانة للفاسدين"، لافتاً إلى أن "معركة القضاة من أجل استقلالية القاضي ستحكم بشكل كبير مستقبل طموحنا الجماعي في بناء دولة القانون".

واللافت في حركة القضاة وجود تباين بين الموقفين السياسي والشعبي تجاه دعمهم. ويعتقد قطاعٌ من الناشطين أن القضاة ظلّوا لفترة طويلة جزءاً من منظومة الحكم، وأن مطالبهم المهنية والذاتية لا علاقة لها بالمطالب الديمقراطية للحراك. وينطلق هؤلاء خصوصاً من ضعف موقف القضاة إزاء الناشطين الذين أوقفتهم السلطات بسبب مواقفهم المعارضة ومشاركتهم في التظاهرات أو رفع الراية الأمازيغية، والذين أقرّ القضاة حبسهم، دون أن يتخذوا في الغالب مواقف جريئة لإطلاق سراحهم. في المقابل، يعتقد جزء آخر من الناشطين، بينهم الناشط البارز في الحراك الشعبي عبد الوكيل بلام، أنه "مهما كانت مبررات ودوافع إضراب القضاة، فإن حركتهم الاحتجاجية هزّت النظام وزعزعت السلطة وأضعفت موقفها"، معتبراً في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "بقدر ما تحرر القضاة، بقدر ما سيتحرر الحراك والشارع الجزائري من ضغوط وإكراهات السلطة". وذكّر في هذا السياق أن "استقلالية العدالة وإنهاء عدالة الهاتف والضغوط ظلّت مطلباً مركزياً للحراك الشعبي منذ تظاهراته الأولى في فبراير/شباط الماضي".

مهما كانت النهايات التي سيؤول إليها عصيان القضاة، فإن القضاء الجزائري قبل 27 أكتوبر/تشرين الأول الماضي ليس كما بعده، خصوصاً مع نجاح القضاة في كسر حاجز الخوف نهائياً، وحشر الحكومة في الزاوية، ضمن مناخٍ تتصاعد فيه المواقف الشعبية، وعشية جمعة تاريخية للحراك الشعبي.