هي الكعكة ذاتها التي تريد شعوب دول العالم أن تتقاسمها مع سلطات وحكام وأثرياء بلادها بعدلٍ ومساواة. قد تكون هذه هي خلاصة أكثر من أسبوع من الاحتجاجات الشعبية، التي لا تزال تعمّ دولة تشيلي، وخاصة عاصمتها سانتياغو. هذه الدولة الأميركية اللاتينية، التي كان اقتصادها حتى وقت ليس ببعيد محطّ إعجاب، ويُنظر إليه على أنه الأكثر استقراراً في النصف الجنوبي من القارة الأميركية، دخلت في مرحلة فوضى واحتجاجات غير مسبوقة قد تكون الأكبر في تاريخها، أو أقله منذ خمسة عقود، بحسب مؤرخين، ولم تتمكن الإجراءات التي أعلن عنها أخيراً رئيسها المحافظ سيباستيان بينييرا، من تهدئتها، بعدما شكلت شرارتها، أي رفع أسعار بطاقات المواصلات الحكومية بقيمة 30 بيزوس (3.73 في المائة)، الشعرة التي قصمت ظهر البعير.
قصة نجاح؟
وإلى ما قبل الاحتجاجات الأخيرة، كانت تشيلي توصف بأنها "قصة نجاح"، في ظلّ عهود رئاسية من اليمين واليسار، واتفاق على سياسة سوق حرة رفعت من معدلات النمو، وخفضت معدلات الفقر، ما أدى إلى أن يحصد هذا البلد النتيجة الأفضل في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، مع ارتفاع معدل الحياة، ونسبة التعليم، والدخل الوطني. في العام 2010، أصبح هذا البلد الدولة الأميركية اللاتينية الثانية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. الشهر المقبل، من المتوقع أن يستضيف بينييرا منتدى التعاون الاقتصادي الآسيوي ـ الهادئ، تليه قمة الأمم المتحدة الـ25 للتغير المناخي. لكن في هذه الأثناء، وجد تقرير للأمم المتحدة صدر في العام 2017 أن نسبة الواحد في المائة التي تشكل أثرياء تشيلي تكسب 33 في المائة من ثروات البلاد، ما يجعل هذا البلد الأقل مساواة بين مواطنيه في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بارتفاع بسيط عن المكسيك.
لهذه الأسباب مجتمعة، كشفت التظاهرات ضد ارتفاع أسعار "المترو" شعوراً عميقاً لدى التشيليين بعدم الرضى عن أداء حكوماتهم المتعاقبة منذ نهاية ديكتاتورية أوغستو بينوشيه (1973 - 1990). ويعتبر نظام التعاقد من أبرز القضايا التي تشغل بال المجتمع التشيلي. هذا النظام الذي شملته الخصخصة في عهد بينوشيه، يؤمّن اليوم ربحاً جيداً لصناديق التقاعد التشيلية المساهمة فيه، لكن بمردودٍ أقل بكثير على التشيليين، الذين اشترك نصفهم به.
وبعد خمسة أيام من الاحتجاجات، وجه الرئيس التشيلي، وهو ملياردير محافظ انتخب في العام 2017، رسالة اعتذار لمواطنيه، معلناً إجراءات اجتماعية جديدة تصل كلفتها إلى 1.2 مليار دولار، ومساهمة إضافية في مدخول الموظفين الذين يتقاضون الحدّ الأدنى من الأجور، مع مساعدات حكومية لتغطية أسعار الدواء، ورفع نسبة راتب التقاعد بـ20 في المائة، بالإضافة إلى خفض كلفة الكهرباء (التي تحولت بدورها إلى القطاع الخاص في عهد الديكتاتورية). يُذكر أن ما يجنيه معظم العمال في تشيلي شهرياً لا يتخطى 500 يورو، فيما تضاهي كلفة الحياة اليومية نظيرتها في أوروبا. وإضافة إلى هذه الإجراءات، أبدى بينييرا انفتاحاً على خفض رواتب البرلمانيين (الأعلى اليوم في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية)، وهو مطلب ساقته منذ سنوات المعارضة اليسارية في البلاد. على الرغم من ذلك، لم تهدئ هذه الإجراءات الشارع التشيلي، الذي كان كذلك يعيش تحت وطأة حالة طوارئ فرضتها الحكومة، ما جعل مدناً عدة في عهدة الجيش. وبحسب "المعهد الوطني لحقوق الإنسان" (وهو منظمة حكومية محلية مستقلة)، فقد أحصى إصابة 210 أشخاص حتى يوم الأربعاء الماضي خلال التظاهرات برصاص الأمن، كما سُجلت اتهامات بالتعذيب، هذا بالإضافة إلى مقتل 19 شخصاً.
وبعد إعلانه يوم السبت الماضي إجراء تعديل وزاري، قرر الرئيس التشيلي رفع حال الطوارئ بعد أكثر من أسبوع على فرضها، لكن الاحتجاجات تواصلت رغم ذلك. وجاء قرار إلغاء مرسوم حال الطوارئ منتصف ليل الأحد ــ الإثنين، وغداة إنهاء تدبير حظر التجول ليلاً، وهو تدبير آخر غير شعبي صدم التشيليين. ونشرت الرئاسة التشيلية على حسابها الرسمي في "تويتر" أنّ حال الطوارئ التي شملت نشر 20 ألف جندي وشرطي ستنتهي "في كلّ المناطق والبلدات حيث فرِضَت".
اليوم، تبدو احتجاجات تشيلي ذاهبة باتجاه فوضوي أكثر، بعدما لم تقرأ السلطات الحاكمة استياءً كانت بوادره ظاهرة منذ فترة. تقول مارتا لاغوس، وهي محللة اقتصادية تشيلية ومؤسسة مركز الاستطلاعات "لاتينوبارومترو"، في حديث صحافي، إن "باباً فتح اليوم، ولن يغلق سريعاً. لقد راكم المجتمع التشيلي الكثير من الطلبات الملحة".
(العربي الجديد، فرانس برس، رويترز، أسوشييتد برس)